ج3: رسالة لطائف وإشارات ذوقية في فهم الأمثلة القرآنية - مَن المقصود في قوله تعالى (مثلهم) - ما المقصود بقوله (مثلهم كمثل) حتى يُفهم وجه التشابه بين المنافقين ومستوقد النار - هل حرف الكاف هو حرف زائد في كلمة (كمثل) - لماذا قال تعالى (الذي) وجعل تمثيل الجماعة بالواحد - ما المراد من لفظ (استوقد) - ما هو جواب (لمَّا) ؟ وماذا أفاد .

بسم الله الرحمن الرحيم

رسالة

لطائف وإشارات ذوقية

في شرح وفهم الأمثلة القرآنية

(الجزء الثالث)

 * فهرس:

:: الفصل الرابع :: عن بعض المسائل ..

1- س12: مَن المقصود في قوله تعالى (مثلهم) ؟

2- س13: ما المقصود بقوله (مثلهم كمثل) حتى يُفهم وجه التشابه بين المنافقين ومستوقد النار ؟

3- س14: هل حرف الكاف هو حرف زائد في كلمة (كمثل) ؟

4- س15: لماذا قال تعالى (الذي) وجعل تمثيل الجماعة بالواحد ؟

5- س16: ما المراد من لفظ (استوقد) ؟

6- س17: ما هو جواب (لمَّا) ؟ وماذا أفاد ؟

  ***************************

..:: الفصل الرابع ::..

:: عن بعض المسائل ::

******************

..:: س12: مَن المقصود في قوله تعالى (مثلهم) ؟ ::..

- المقصود بهم هم جماعة المنافقين بإجماع غالب المفسرين .. ويدل عليه ما قبله من الآيات .. وهناك من قال أنهم اليهود الذين انتظروا نبي آخر الزمان فلما جائهم ما عرفوا كفروا به .. ولكن هذا الرأي بعيد جدا عن سياق الآيات ..

***********************

..:: س13: ما المقصود بقوله (مثلهم كمثل) حتى يُفهم وجه التشابه بين المنافقين ومستوقد النار ؟ ::..

* قال الإمام الزمخشري رحمه الله :

- فإن قلت: ما معنى مثلهم كمثل الذي استوقد نارا .. وما مَثَل المنافقين ومَثَل الذي استوقد نارا حتى شبه أحد المثلين بصاحبه؟

- قلت: قد استعير المثل استعارة الأسد للمقدام ، للحال أو الصفة أو القصة ، إذا كان لها شأن وفيها غرابة ..

-  كأنه قيل: حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارا.

- وكذلك قوله:(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أى وفيما قصصنا عليك من العجائب: قصة الجنة العجيبة. ثم أخذ في بيان عجائبها.

- (وللَّه المثل الأعلى): أى الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة.

- (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) : أى صفتهم وشأنهم المتعجب منه.

- ولما في المثل من معنى الغرابة .. قالوا: فلان مثلة في الخير والشر، فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن.

تفسير الكشاف ج1 ص72

*********************************

..:: س14: هل حرف الكاف هو حرف زائد في كلمة (كمثل) ؟ ::..

* قال الإمام شهاب الدين الحلبي رحمه الله (المتوفى: 756هـ):

- المَثَلَ هنا بمعنى القصةِ .. والتقديرُ: صفتُهم وقصتُهم كقصةِ المستوقِدِ فليست (الكاف) زائدةً على هذا التأويلِ.

الدر المصون ج1 ص156 .. مع التصرف بوضع كلمة (الكاف) لتوضيح سياق الجملة.

- وراجع كلام الزمخشري في السؤال السابق .. لأن مفهوم كلامه على أن الكاف غير زائدة .. وإن كان يتكلم في جزئية أخرى .

* قال الشيخ عبد الكريم الخطيب رحمه الله (المتوفى: بعد 1390هـ):

- أكثر المفسرين على أن الكاف فى (كمثلهم) زائدة، باعتبار أن كلمة (مثل) أداة للتشبيه، والكاف أداة للتشبيه، ولا تجتمع الأداتان على مشبّه به واحد، وعلى هذا تكون الصورة هكذا: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) أو (مثلهم كالذى استوقد نارا) .

- وبلاغة القرآن أعظم وأسمى من أن تخضع لمقاييس النحو وتخريج النحاة ..!

- فليس فى كلمات الله ما يحتاج إلى علل النحاة، ليستقيم على علمهم، ولينضبط مع قواعدهم ..!!

- وحسب القرآن أن يقول قولا، أو ينهج أسلوبا، فيكون قوله الحق، وأسلوبه الفصل، ولا عليه أن تضطرب قواعد النحو، وتتبلبل عقول النحاة ..!

- والأمر هنا- فيما يتعلق بالكاف فى (كمثل) - يجرى على أسلوب القرآن كله، فى إعجازه، واستيلائه على أعنّة البلاغة وأزمّتها.

- فقوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) هو تشبيه حال بحال، وشأن بشأن.. بمعنى أن شأن هؤلاء المنافقين وحالهم، كشأن أو حال من استوقد نارا.

- فهؤلاء المنافقون مثل .. وذاك الذي استوقد نارا مثل .. وبين المثلين تشابه وتطابق ، فصح أن يكون كل منهما طرفا فى تشبيه واحد ، وكاف التشبيه أداته .. فكأنه قيل: هذا المثل كهذا المثل ..!

تفسير القرآن بالقرآن ج1 ص36

**************************

..:: س15: لماذا قال تعالى (الذي) وجعل تمثيل الجماعة بالواحد ؟ ::..

- من الأسئلة التي قد تتسائلها لنفسك عند قراءة هذا المثل .. هو أن هذا المثل بدأ بلفظ (الذي) الدال على المفرد ثم لفظ (حوله) الدال على المفرد أيضا .. ثم انتهى بضمير الجمع (بنورهم) (تركهم) .. فكيف يمكن الجمع في هذا التركيب ؟

-ج- اختلف العلماء في هذا على عدة أقوال منها:

1- أن (الذي) تأتي بمعنى المفرد والجمع .. واستدلوا ببعض أبيات شعرية .. وقالوا أن هذا شبيه بقوله تعالى (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الزمر33 ..، وكقوله تعالى (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) التوبة69 ..

2- أن (الذي) بمعنى (مَن) .. وكلمة (مَن) تأتي للمفرد والجمع .

3- أن (الذي) خاص بمشابهة حال المنافقين (الذين آنسوا بنور الإيمان ثم كفروا أو الذين يتظاهرون بالإيمان ليأنسوا بمنافعه) بحال المستوقد طالب الوقود أو الحطب ..  فالمشابهة في أن كلا منهما قد طلب وسيلة تجعل له نورا ينير له طريقه .. أي أن التمثيل قائم على المشابهة في (حال الطلب للنور) .. أي تشبيه حال فعل هؤلاء المنافقين بحال فعل المستوقد .. وليس التشبيه خاص بين ذات المستوقد وذوات المنافقين .. حتى يستلزم ذلك مشابهة الواحد بالجماعة .. ومثال ذلك قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ) الْجُمُعَةِ5.

4- أن (الذي) وقع وصفاً لشيء يُفْهِم الجمع ، ثم حُذِفَ ذلك الموصوفُ للدلالةِ عليه .. أي حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه .. والتقديرُ: مَثَلهم كَمَثَل الفريق الذي استوقد .. أو كمثل أتباع الذي استوقد .. أو كمثل أصحاب الذي استوقد ... وهكذا .. (وهذا الرأي هو ما أميل إليه) ..

* وإليك التفصيل من كلام العلماء ..

* الرأي الأول:

1- قال الإمام الأخفش رحمه الله (المتوفى: 215هـ):

 - (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ) .. فجعل (الذي) جميعا .. فقال (وتَرَكَهم) .. لأن (الذي) في معنى الجميع، كما يكون "الانسان" في معنى "الناس".

معاني القرآن للأخفش ج1 ص54

2- وقال الإمام الزمخشري رحمه الله (المتوفى: 538هـ):

- فإن قلت: كيف مثلت الجماعة بالواحد؟ قلت: وضع الذي موضع الذين، كقوله: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) .

تفسير الكشاف ج1 ص72

3- قال الإمام نجم الدين أبو القاسم النيسابوري (المتوفى:550هـ):

- وهذا التمثيل إن كان لأنفس المنافقين بأنفس المستوقدين ف (الذي) في معنى الجمع لا غير ..

إيجاز البيان عن معاني القرآن ج1 ص72

- قلت (خالد صاحب الرسالة):

- والإمام الطبري رحمه الله (المتوفى: 310هـ) .. قد اعترض على هذا الرأي وشرح الأبيات الشعرية التي استدل بها أصحاب هذا الرأي .. وبين فساد ما استدلوا به .. حتى قال رحمه الله ما نصه : "وغير جائز لأحد نقل الكلمة - التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى - إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها". (تفسير الطبري 1/321)

- وعن نفسي أرى تكلف في الرأي القائل بأن (الذي) بمعنى الذين .. وذلك لسببين:

- الأول: لأنه لو أراد الله أن يقول (الذين) فلماذا قال (الذي) ؟!! ولذلك أصحاب هذا الرأي لم يوضحوا لماذا قال (الذي) بدل من الذين ..!! وإنما اكتفوا ببعض الأبيات الشعرية وبعض الآيات .. التي توضح ما ذهبوا إليه .. وقد رد الإمام الطبري على استدلالاتهم الشعرية بقوة في تفسير .. وأوضح أنها خلاف ما ذهبوا إليه .

- الثاني: استدلوا ببعض الآيات كالإستدلال بآية (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الزمر33 .. ووجه للإستدلال بها لا يصح .. لأن معنى (صدق به) هم جماعة المؤمنين ولذلك صح أن يقول بعد ذلك (أولئك) ..، أما قوله تعالى  (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا)   في حقيقة الأمر الكلام في تقديره حذف لمصدر محذوف يفهم من السياق القرآني وهو (وخضتم كالخوض الذي خاضوا) .. ويُفهم مما سبق أن السياق القرآني لفظ (الذي) كما هو لا تأويل له .. حتى ننقل معنى الذي إلى الذين دون داع يدعو لذلك .. والله أعلم.

* الرأي الثاني:

1- قال الإمام أبو الحسن القيرواني رحمه الله (المتوفى: 479هـ):

- أن (الذي) اسم مبهم كـ (مَن) .. يصلح أن يقع للجميع ويصلح أن يقع للواحد كما قال: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) الأنعام25 .. وقال في موضع آخر: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) يونس42 .. فأخرج الأول على اللفظ، والثاني على المعنى وهذا وجه حسن.

النكت في القرآن الكريم ص114

2- قال الدكتور وهبه الزحيلي :

(اسْتَوْقَدَ) و(تَرَكَهُمْ) أعاد الضمير إلى الأول بالإفراد .. وإلى الثاني بالجمع .. لأنه نزّل (الَّذِي) منزلة (مَن) ..، و (مَن) يرد الضمير إليها تارة بالإفراد، وتارة بالجمع.

التفسير المنير ج1 ص89

- قلت (خالد صاحب الرسالة): وإن كان هذا وجه حسن من الرأي .. ولكن أرى تكلف في هذا الرأي .. لأنه لو كان الله يريد أن يقول (مَن) .. فلماذا قال (الذي) ؟!! .. والله أعلم .

- الرأي الثالث:

1- قال الإمام الفرَّاء رحمه الله  (المتوفى: 207هـ) :

- فإنما ضرب المثل- والله أعلم- للفعل لا لأعيان الرجال .. وإنما هو مَثَل للنفاق . فقال: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ولم يقل: الذين استوقدوا.

معاني القرآن للفراء ج1 ص15

2- قال الإمام الطبري رحمه الله (المتوفى: 310هـ) :

- أما في الموضع الذي مثَّل ربُّنا جل ثناؤه جماعةً من المنافقين، بالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلا فجائز حسنٌ . (الطبري 1/318)

- ثم عاد بعد كلام فقال رحمه الله: ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد، إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى.

وأما إذا أريدَ تشبيهُ الجماعة من أعيان بني آدم - أو أعيان ذوي الصور والأجسام، بشيء - فالصَّواب من الكلام تشبيهُ الجماعة بالجماعة، والواحدُ بالواحد، لأن عينَ كل واحد منهم غيرُ أعيان الآخرين.

ولذلك من المعنى، افترق القولُ في تشبيه الأفعال والأسماء. فجاز تشبيهُ أفعال الجماعة من الناس وغيرهم - إذا كانت بمعنى واحدٍ - بفعل الواحد، ثم حذف أسماء الأفعال وإضافة المثَل والتشبيه إلى الذين لهم الفعل. فيقال: ما أفعالكم إلا كفِعل الكلب، ثم يحذف فيقال: ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب، - وأنت تعني: إلا كفعل الكلب، وإلا كفعل الكلاب. (الطبري 1/319) .

3- قال الإمام نجم الدين أبو القاسم النيسابوري (المتوفى:550هـ):

- إن كان ذلك تشبيه حالهم بحال المستوقد جاز فيه معنى الجمع والتوحيد، لأنه إذا أريد به الحال صار الواحد في معنى الجنس ، إذ لا يتعين به مستوقد بخلاف إرادة الذات.

إيجاز البيان عن معاني القرآن ج1 ص72

4- قال الإمام الفخر الرازي رحمه الله (المتوفى: 606هـ) :

- أَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَذَوَاتِهِمْ لَمْ يُشَبَّهُوا بِذَاتِ الْمُسْتَوْقِدِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ تَشْبِيهُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ وَإِنَّمَا شُبِّهَتْ قِصَّتُهُمْ بِقِصَّةِ الْمُسْتَوْقِدِ.

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ) الْجُمُعَةِ5 .. وَقَوْلُهُ: (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) الأحزاب19 .

مفاتيح الغيب ج2 ص313

5- وقال الطاهر بن عاشور رحمه الله (المتوفى:1393هـ):

- و(الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) مُفْرَدٌ مُرَادٌ بِهِ مُشَبَّهٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ مُسْتَوْقِدَ النَّارِ وَاحِدٌ وَلَا مَعْنَى لِاجْتِمَاعِ جَمَاعَةٍ عَلَى اسْتِيقَادِ نَارٍ ..

- وَلَا يريبك كَون الْحَالة الْمُشَبَّهِ حَالَةَ جَمَاعَةِ الْمُنَافِقِينَ .. كَأَنَّ تَشْبِيهَ الْهَيْئَةِ بِالْهَيْئَةِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِتَصْوِيرِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِهَا لَا بِكَوْنِهَا عَلَى وَزْنِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ .. فَإِنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ حَالِ الْمُنَافِقِينَ فِي ظُهُورِ أَثَرِ الْإِيمَانِ وَنُورِهِ مَعَ تَعَقُّبِهِ بِالضَّلَالَةِ وَدَوَامِهِ .. بِحَالِ مَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا.

التحرير والتنوير ج1 ص307

- ثم قال بن عاشور في صفحة أخرى من تفسيرة :

وَجَمْعُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: (بِنُورِهِمْ) مَعَ كَوْنِهِ بِلَصْقِ الضَّمِيرِ الْمُفْرَدِ فِي قَوْلِهِ: (مَا حَوْلَهُ) .. مُرَاعَاةً لِلْحَالِ الْمُشَبَّهَةِ وَهِيَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ لَا لِلْحَالِ الْمُشَبَّهِ بِهَا وَهِيَ حَالُ الْمُسْتَوْقِدِ الْوَاحِدِ .. عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ انْطِمَاسُ نُورِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ .. فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ لَا إِلَى (الَّذِي).

التحرير والتنوير ج1 ص309

* الرأي الرابع:

1- قال الإمام شهاب الدين الحلبي (المتوفى: 756هـ):

- والأَوْلى أن يقال إن (الذي) وقع وصفاً لشيء يُفْهِم الجمعَ، ثم حُذِفَ ذلك الموصوفُ للدلالةِ عليه، والتقديرُ: مَثَلهم كَمَثَل الفريق الذي استوقد أو الجمعِ الذي استوقَدَ ..

الدر المصون في علوم الكتاب المكنون ج1 ص 156

- قلت (خالد صاحب الرسالة): وهذ كقوله تعالى (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) التوبة89 .. فهذا وَصْفٌ لمصدر محذوف تقديره (وخضتم كالخوض الذي خاضوا) ..

- ولكن الإمام الحلبي عاد بعد كلام وذكر ما تستنتج منه .. أنه لم يتفق من الرأي السابق بالرغم من أنه قال (الأولى) ..!! فكتب رحمه الله ما نصه:

- والضميرُ في (بنورِهم) عائدٌ على معنى (الذي) كما تقدَّم، وقال بعضُهم: هو عائدٌ على مضافٍ محذوفٍ تقديرُه: كمثلِ أصحابِ الذي استوقدَ، واحتاج هذا القائلُ إلى هذا التقديرِ قال: حتى يتطابقَ المشبَّهُ والمشبَّهُ به، لأنَّ المشبَّهَ جمعٌ، فلو لم يُقَدَّرْ هذا المضافُ وهو " أصحاب " لَزِم أن يُشَبِّه الجمعَ بالمفردِ وهو الذي استوقد .. انتهى.

- ولا أدري ما الذي حَمَلَ هذا القائلَ على مَنْعِ تشبيه الجمعِ بالمفردِ في صفةٍ جامعةٍ بينهما ..!!

الدر المصون في علوم الكتاب المكنون ج1 ص 163

2- وأظن أن الإمام بن القيم رحمه الله (المتوفى: 751هـ) .. من أصحاب هذا الرأي حيث يقول:

- شبه سبحانه أعداءه المنافقين بقوم أوقدوا نارا لتضيء لهم، وينتفعوا بها فلما أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم وما يضرهم، وأبصروا الطريق بعد أن كانوا حيارى تائهين. فهم كقوم سفّر ضلوا عن الطريق، فأقدوا النار تضيء لهم الطريق، فلما أضاءت لهم فأبصروا وعرفوا طفئت عنهم تلك الأنوار، وبقوا في الظلمات لا يبصرون، قد سدت عليهم أبواب الهدى الثلاث.

- فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب، مما يسمعه بأذنه، ويراه بعينه ويعقله بقلبه. وهؤلاء قد سدت عليهم أبواب الهدى، فلا تسمع قلوبهم شيئا، ولا تبصره، ولا تعقل ما ينفعها.

- وقيل: لما لم ينتفعوا أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزّلوا منزلة من لا سمع له ولا بصر ولا عقل. والقولان متلازمان.

تفسير بن القيم ص114

* قلت (خالد صاحب الرسالة):

- وأفضل الأقوال هو القول الثالث والرابع .. لأنهما يتفقا مع المثل القرآني دون تكلف فيه .. وكثير من المفسرين يميلون للرأي الثالث .. وعن نفسي فأميل أكثر للرأي الرابع لدقته وتوافقه مع ظاهر المثل .. وتوافقه مع الأسلوب القرآني في كثير من الآيات .. والله أعلم .

************************

..:: س16: ما المراد من لفظ (استوقد) ؟ ::..

* قلت (خالد صاحب الرسالة): 

أولا: والوقود بالضم مصدر .. وقدت النار وقوداً .. ويقصد به إشعال النار .. والوَقود بالفتح هو ما تُوقَدُ به النار .. أي وسيلة إشعال كالحطب وغير ذلك من مصادر الطاقة.

ثانيا: استوقد النار: طلب وُقودُها بسطوع نارها واندلاع لهيبها .. إما بجهد من نفسه فيكون بمعنى (أوقد) .. وإما بطلب من غيره .

ثالثا: الإستفعال في كلام العرب على وجهين:

1- بمعنى طلب الفعل من الغير ليفعله له .. ومثاله قوله تعالى (وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ) البقرة60 .. أي طلب السقيا من الله مبتهلا إليه ومجتهدا في دعاءه ..

2- بمعنى أَفْعَلَ .. أي هو من فعل ذلك بنفسه .. مثل (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) آل عمران195 .. والسين والتاء للتأكيد في تحقيق الفعل بالقبول .. لأنه لو قال (أجاب) فيحتمل القبول أو الرفض .

- وغالب علماء التفسير على أن (استوقد) بمعنى أوقد .. والسين والتاء لتأكيد حصول المطلوب بعد جهد .

* قال الإمام الطاهر بن عاشور رحمه الله (المتوفى : 1393هـ):

- (اسْتَوْقَدَ) بِمَعْنَى أَوْقَدَ فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا هما فِي قولهه تَعَالَى: (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) آل عمرَان95 .. وَقَوْلُهُمُ: اسْتَبَانَ الْأَمْرُ.

التحرير والتنوير ج1 ص307

* قال الإمام أبو زهرة رحمه الله  (المتوفى: 1394هـ) :

- واستوقد النار .. أوقدها بعد علاج وطلب للوقود، فاستوقد معناها أَوْقَدَ، والفرق بينهما أن الأول يكون بطلب وجهد؛ لأن السين والتاء للطلب، وهي تفيد المعالجة في الإقادة، فلا يصل الإقادة إلا بجهد ومشقة.

زهرة التفاسير ج1 ص141

***************************

..:: س17: ما هو جواب (لمَّا) ؟ وماذا أفاد ؟ ::..

* قال الإمام الزمخشري رحمه الله (المتوفى: 538هـ):

- فإن قلت: أين جواب (لمَّا) ؟

- قلت: فيه وجهان:

- أحدهما: أن جوابه ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. والثاني: أنه محذوف كما حذف في قوله: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) . وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس للدالّ عليه، وكان الحذف أولى من الإثبات لما فيه من الوجازة، مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من اللفظ في أداء المعنى، كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام، متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح في إحياء النار.

- فإن قلت: فإذا قدّر الجواب محذوفا فبم يتعلق (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) ؟ قلت: يكون كلاما مستأنفاً.. كأنهم لما شبهت حالهم بحال المستوقد الذي طفئت ناره، اعترض سائل فقال:

ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل له: ذهب اللَّه بنورهم. أو يكون بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان.

- قد رجع الضمير في هذا الوجه إلى المنافقين ..

- فما مرجعه في الوجه الثاني؟

- قلت: مرجعه الذي استوقد لأنه في معنى الجمع. وأما جمع هذا الضمير وتوحيده في: (حَوْلَهُ) ، فللحمل على اللفظ تارة، وعلى المعنى أخرى.

تفسير الكشاف عن غوامض التنزيل ج1 ص73

* قال الإمام شهاب الدين الحلبي رحمه الله (المتوفى: 756هـ) ردا على الرأي الأول لكلام الإمام الزمخشري السابق:

- قولُه تعالى: (ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ) هذه الجملةُ الظاهرُ أنَّها جوابُ (لَمَّا) .

- وقال الزمخشري: "جوابُها محذوفٌ، تقديرُه: فلمَّا أضاءَتْ خَمَدَت" ..، وجَعَل هذا أبلَغَ من ذِكْرِ الجواب، وجعلَ جملةَ قوله: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} مستأنفة أو بدلاً من جملة التمثيل.

- وقد رَدَّ عليه بعضُهم هذا بوجْهَيْن:

- أحدهما: أنَّ هذا تقديرٌ مع وجودِ ما يُغْني عنه فلا حاجةَ إليه، إذ التقديراتُ إنما تكونُ عند الضروراتِ.

- والثاني: أنه لا تُبْدَلُ الجملةُ الفعليةُ من الجملةِ الاسميةِ.

الدر المصون في علوم الكتاب المكنون ج1 ص162

* قال الإمام القرطبي رحمه الله (المتوفى: 671هـ):

- وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي جَوَابِ لَمَّا، وَفِي عَوْدِ الضَّمِيرِ مِنْ (نُورِهِمْ) .

- فَقِيلَ: جَوَابُ لَمَّا مَحْذُوفٌ وَهُوَ طَفِئَتْ، وَالضَّمِيرُ فِي (نُورِهِمْ) عَلَى هَذَا لِلْمُنَافِقِينَ، وَالْإِخْبَارُ بِهَذَا عَنْ حَالٍ تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ) الحديد13.

- وَقِيلَ: جَوَابُهُ (ذَهَبَ) ، وَالضَّمِيرُ فِي (نُورِهِمْ) عَائِدٌ عَلَى (الَّذِي)، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَتِمُّ تَمْثِيلُ الْمُنَافِقِ بِالْمُسْتَوْقِدِ، لِأَنَّ بَقَاءَ الْمُسْتَوْقِدِ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُ كَبَقَاءِ الْمُنَافِقِ فِي حِيرَتِهِ وَتَرَدُّدِهِ.

تفسير القرطبي ج1 ص212

***********************

يتبع إن شاء الله تعالى

*****************

والله أعلم

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وسلم

هذه الرسالة مصدرها - مدونة الروحانيات فى الاسلام -  ولا يحق لأحد نقل أي موضوع من مواضيع أو كتب أو رسائل المدونة .. إلا بإذن كتابي من صاحب المدونة - ا/ خالد أبوعوف .. ومن ينقل موضوع من المدونة أو جزء منه (من باب مشاركة الخير مع الآخرين) فعليه بالإشارة إلى مصدر الموضوع وكاتبه الحقيقي .. ولا يحق لأحد بالنسخ أو الطباعة إلا بإذن كتابي من الأستاذ / خالد أبوعوف .. صاحب الموضوعات والرسائل العلمية .