ج8: رسالة النفحات في مفهوم الحديث النبوي عن نسيان حفظ القرآن والتغني بالآيات - ما هي أهمية حفظ القرآن وما هو توجيه النبي في التعامل مع القرآن - ما هو الصحيح في الأحاديث التي جاء فيها بالوعيد لمن نسى كلام الله - هل يؤخذ بفتاوى العلماء السابقين في تحريم نسيان حفظ القرآن - لماذا القائلين بتأثيم من ينسى حفظ القرآن من الذاكرة هم على خطأ.

بسم الله الرحمن الرحيم

رسالة النفحات

في مفهوم الحديث النبوي

عن نسيان حفظ القرآن والتغني بالآيات

(مع التعريف بأهل القرآن وبعض من خسروا أجر عبادتهم عند الله)

(الجزء الثامن)

* فهرس:

:: الفصل التاسع :: عن نسيان حفظ القرآن  ::

1- س40: ما هي أهمية حفظ القرآن وما هو توجيه النبي في التعامل مع القرآن ؟ 

2- س41: ما هو الصحيح في الأحاديث التي جاء فيها بالوعيد لمن نسى كلام الله ؟

3- س42: هل يؤخذ بفتاوى العلماء السابقين في تحريم نسيان حفظ القرآن ؟

4- 43: لماذا القائلين بتأثيم من ينسى حفظ القرآن من الذاكرة هم على خطأ ؟ 

*************************

..:: الفصل التاسع ::.. 

:: عن نسيان حفظ القرآن  ::

***********************

..:: س40: ما هي أهمية حفظ القرآن وما هو توجيه النبي في التعامل مع القرآن ؟ ::..

- لا يختلف أحد على أن حفظ القرآن .. كرامة من الله لمن يكرمه الله بذلك .. ويكفيك قول النبي صلى الله عليه وسلم (مَثَلُ الذي يَقْرَأُ القُرْآنَ، وهو حافِظٌ له مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ ، ومَثَلُ الذي يَقْرَأُ، وهو يَتَعاهَدُهُ، وهو عليه شَدِيدٌ فَلَهُ أجْرانِ) صحيح البخاري.

- وللنبي صلى الله عليه وسلم توجيه لمن يتعامل مع القرآن عموما .. سواء حفظا أو قراءة ..

- جاء في الحديث : (تَعاهَدُوا هذا القُرْآنَ، فَوالذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ لَهو أشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإبِلِ في عُقُلِها) صحيح مسلم.

- وفي رواية بلفظ: (إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ القُرْآنِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ الإِبِلِ المُعَقَّلَةِ، إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ) صحيح البخاري.

- (تعاهدوا هذا القرآن): لازموا قرائته بالمداومة عليه .

- (تَفَلُّتًا): ذهابا وهروبا ..

- (عُقُلِها): مرابطها المربوطة فيها بالحبال.

- (صاحب القرآن): الذي ألِفَ تِلاوةَ القرآنِ .. حفظا وقراءة .

- (عاهد عليها) : راقَبَها، وأبقاها مَربوطةً .. والمقصد في التشبيه هو تجديد العهد مع القرآن بملازمة تلاوته.

- (المُعَقَّلَةِ): بضم الميم وفتح العين المهملة وتشديد القاف، أي: المشدودة بالعقال، وهو الحبل الذي يشد به في ركبة البعير.

- قال الدكتور موسى شاهين لاشين ( المتوفى: 1430 هـ):

- والمعنى: إنما مثل صاحب القرآن مع القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة مع إبله المعقلة، ومعنى صاحب القرآن الذي ألفه، أي ألف تلاوته نظرًا من المصحف أو عن ظهر قلب، فإن الذي يداوم على ذلك يذل لسانه ويسهل عليه قراءته ويألفه، فالمصاحبة المؤالفة، ومنه: فلان صاحب فلان، وأصحاب الجنة، وأصحاب النار، وأصحاب الحديث، وأصحاب إبل وغنم، وصاحب كنز، وصاحب عبادة. ذكره النووي.

فتح المنعم شرح صحيح مسلم ج3 ص590

* قلت (خالد صاحب الرسالة):

- تذوق في فهم الحديث النبوي :

- والحديث يرشدك إلى أن الترابط الدائم مع القرآن بدوام تلاوته .. يجعل بينك وبينه صحبه .. وشرط الصحبة يكون عن اتفاق .. فلو أردت أن تكون صاحبا للقرآن ويصاحبك القرآن .. فعليك أن تكون معاهدا له أي مديما على تلاوته سواء حفظا أو قراءةمن المصحف .. وإلا ستكون هذه الصحبة غير وثيقة الصلة بل قد تنعدم مع مرور الوقت كلما حدث جفاء بينك وبين قرائته ..!! فانتبه ..!! والله أعلم .

- ولكن انتبه أخي الحبيب .. لما يفعله بعض الدعاة المتنمرين على برامج التواصل الإجتماعي وعلى صفحات الإنترنت :

- في مسألة حفظ القرآن جاءت أحاديث تم استخدامها بأسلوب خاطيء .. مما جعل كثير من المؤمنين يبتعدون عن حفظ القرآن .. حتى لا يدخلون في الوعيد الخاص بمن ينسى حفظ القرآن ..!!

- ولكن هل هناك وعيد فعلا لمن ينسى ..؟!!

- أضف إلى ما سبق أننا نجد بعض من كتب التجويد وبعض الدعاة على النت والتلفاز .. يوجهون الناس إلى حفظ القرآن .. وهذا شيء جيد .. ولكن نادرا ما نسمع أحد منهم يقول اعملوا بالقرآن ؟!! وكأن حفظ القرآن هو حفظ ذهني فقط ، وليس حفظ عملي واقعي ؟!! وكأن التكليف خاص بترديده على اللسان دون العمل به ..!!

- ألم ينتبهوا لقوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ص29..

- أم لم ينتبهوا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تَعَلَّمُوا كِتَابَ اللهِ وَاقْتَنُوهُ - قَالَ قُبَاثٌ: وَحَسِبْتُهُ قَالَ - وَتَغَنُّوا بِهِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْمَخَاضِ مِنَ الْعُقُلِ) رواه أحمد .. وقال الأرنؤوط: حديث صحيح وإسناده جيد .. وذكره الألباني في الصحيحة .

- (تعلموا): أي تدارسوه بالمذاكرة فيه والتدبر في معانيه .

- (اقتنوه): حاولوا أن تحفظوه في صدوركم .

- (قَالَ قُبَاثٌ): هو قَبَاثُ بْنُ رَزِينٍ اللَّخْمِيُّ - أحد رواة الحديث ..

- (تغنوا به): أن تجعلوه يجري على ألسنتكم كما يجعل أهل الغناء أغانيهم على ألسنتهم ..!! ولذلك قال بعدها (لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا) .. أراد دوام جريانه على اللسان حتى لا يذهب عنك حفظه بصفة خاصة أو كرامة تلاوته بصفة عامة .

- (تفلتا): ذهابا وهروبا منك .

- (المخاض من العقل): من النوق الحامل المربوطة بالحبل .

- وأحب أن أناقش معك أخي الحبيب مسألة نسيان حفظ القرآن .. حتى تتبين هذه المسألة الشرعية ولا تسمح لأحد بأن يتنمر عليك ويقوم بتأثيمك ويدخلك النار .. باستخدامه لبعض الأحاديث كوسيلة زجر ليجلدك بها أو يستخدم بعض آراء الفقهاء ليتستر ورائها .. وهو يعلم أن الحق خلاف ما قاله ..!!

- علما بأن مفهوم نسيان حفظ القرآن عند العلماء على وجهين :

- الأول: النسيان عند بعض العلماء إنما هو نسيان عن عمد نتيجة تكاسل مثلا .. وليس نسيان نتيجة قدرات ضعيفة للإنسان في الحفظ  أو نتيجة مرض أو انشغال بعمل أو اجتهاد في علم ..

- الثاني: النسيان عند البعض الآخر من العلماء هو ترك العمل بالقرآن .

*********************

..:: س41: ما هو الصحيح في الأحاديث التي جاء فيها بالوعيد لمن نسى كلام الله ؟ ::..

- أخي الحبيب .. اعلم أنه لا يوجد حديث صحيح فيه وعيد لمن نسى الحفظ في القرآن سواء عن سوء حفظ أو تكاسلا منه وتراجعا منه في الحفظ ..

- وأن الأحاديث التي يستخدمها بعض المتنمرين الذين يحفظون القرآن وينشرونها على شبكة الإنترنت .. ويتعمدون استخدامها بالرغم من معرفتهم بكونها ضعيفة إلا أن نفوسهم المنفرة أبت إلا أن تستخدم هذه الأحاديث ككرباج لبعض المؤمنين الذين يسعون لحفظ القرآن .. ثم يزيدون حجتهم بكلام العلماء السابقين تأكيدا على ما ذهبوا إليه .. بالرغم من معرفتهم بضعف هذه الأحاديث والتي لا يصح أن يستخدم منها حكم شرعي .. إلا أن نفوسهم المنفرة المؤذية للمؤمنين أصرت على أن تجعل من هذه الأحاديث عقيدة وشريعة وتفرضه على المؤمنين كأنه دين ولكنه ليس بدين ولا يجب اعتقاده أصلا ..!! لأنه لا دليل عليه ..!! فما بالك لو كان الدليل الشرعي خلافه ومناقض له ؟!!

- بل وهؤلاء المتنمرين من ذوي النفوس المنفرة .. لم يستدلوا فقط بأحاديث ضعيفة في إثبات حكم ديني .. وإنما كتموا العلم أيضا في نقل تفسير هذه الأحاديث ويسردون ما تهواه أنفسهم فقط ويكتمون الرأي الأحق أن يقال ..!! فأي حفظة قرآن هؤلاء الذين يخونون أمانة نقل العلم ..!!

- لذلك ستجد هنا أن الأحاديث التي استدلوا بها هي أحاديث ضعيفة .. ولا يحتج بها في إثبات حكم شرعي .. لأن الحكم الشرعي يبنى على يقين وليس على دليل ضعيف ليس له طرق تقويه وتؤكده وشاهدة له .. فما بالك لو حكم في مسألة مخالف للنص والعقل ؟!!

- وهذه هي الأحاديث التي استدلوا بها:

1 - روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت عليَّ أعمال أمتي، فلم أر ذنبًا أعظم من سورةٍ من القرآن، أو آية أوتيها رجل ثم نسيه) ضعيف أبي داوود وضعيف الترمذي .. قال ابن عبد البر: ليس هذا الحديث مما يحتج به لضعفه..، وقال الألباني: إسناده ضعيف؛ لأن ابن جريج والمطلب بن عبد الله كلاهما مدلس، وقد عنعناه. وقد ضعفه البخاري، والترمذي .. إلى أن قال الألباني:  وقال القرطبي: " الحديث غير ثابت ". وقال الحافظ: " في إسناده ضعف ". ومِنْ ثم رمز له السيوطي بالضعف" .. وقد ذكره الألباني في ضعيف الجامع وضعيف المشكاة وضعيف أبي داوود وضعيف الترمذي وضعيف الترغيب ..، وقال الأرنؤوط: إسناده ضعيف، ابن جريج -وهو عبد الملك بن عبد العزيز- مدلس ورواه بالعنعنة ..

2 - روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَا مِن امرئٍ يَقرَأ القرآن، ثم ينساه إلا لقيَ الله يَومَ القَيامة أجذَمَ) ضعيف أبي داوود .. قال الألباني: إسناده ضعيف؛ يزيد ضعيف، وعيسى مجهول، ولم يسمع من ابن عبادة. وقال الحافظ: " في إسناده مقال ..، وقال الأرنؤوط: إسناده ضعيف لجهالة عيسى - وهو ابن فائد - فلم يرو عنه غير يزيد بن أبي زياد، وقال ابن المديني: مجهول، ويزيد بن أبي زياد - وهو الهاشمي مولاهم - ضعيف، وقد اضطرب في إسناده .

**************************

..:: س42: هل يؤخذ بفتاوى العلماء السابقين في تحريم نسيان حفظ القرآن ؟ ::..

- أولا: أريدك أن تعرف أخي الحبيب .. أن العلماء اختلفوا في تفسير النسيان الذي جاء في حديث أبي داوود الضعيف ..

- فبعض العلماء قالوا بأن معنى نسيان القرآن هو إسقاطه من الذاكره .. وهو لو كان عن مرض أو سوء حفظ لضعف الذاكرة أو انشغال بعلم أو عمل يشغله عن متابعة الحفظ .. فلا حرج .. وإن كان عن تكاسلا منه أو مللا منه في متابعة الحفظ .. فهذا هو من يدخل في الوعيد الذي في الحديث الذي رواه أبو داوود .. والحديث كما قلنا ضعيف ..

- وبعض العلماء .. قالوا أن المقصد من النسيان إنما ترك العمل به .. لأن النسيان معناه الترك .. وذاكرة الإنسان لا قدرة له عليها حتى يجعلها تحفظ أو تنسى .. بخلاف فعل الأوامر واجتناب النواهي فللإنسان قدرة على فعل ذلك .. وأبسط شيء استدلوا به قوله تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى . وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) طه124-127 ..

- والنسيان في الآية معناه هو الترك .. والمقصد بنسيان الآيات هنا هو الإعراض عنها وترك الإيمان والعمل بها .. أي ترك ما أمرك به ونهاك عنه .. ولا يقول عاقل أبدا بأن النسيان هنا معناه ترك حفظ الآيات .. وإلا كان الكلام مقصود به أن من لم يحفظ الآيات فهو في العذاب ..!! ولأصبح حفظ الآيات كلها هو فرض لازم على الجميع ..!! وهذا كلام لا يتصوره إنسان عاقل .. ولا أحسب أن يقول به مؤمن ..!!

- أحببتك أن تعرف اختلاف الآراء .. حتى تعلم كيف يتم الخيانة في نقل العلم الديني في  تفسير الحديث بما يتفق وأهواء البعض .. دون مراعاة الأمانة العلمية ..!! وكيف أن العلماء اختلفوا فيه على آراء في الفهم لكلمة النسيان .. وكيف تم تجاهل الرأي الثاني الأقوى لأنه يملك من أدلة الآيات ما لا يملكه من قال بنسيان القرآن من الذاكره ..!!

- وهذه النفوس المنفرة والمتنمرة بالأحاديث على المؤمنين الذين يحاولون حفظ القرآن .. لو يعلموا كم من الناس حرموهم من محاولة حفظ القرآن .. ما كانوا فعلوا ما فعلوه .. لأن كثير من المؤمنين تراجعوا عن الحفظ بعد أن ظنوا أنهم سيكونوا مرتكبي كبيرة لو نسوا آية أو قد أتوا باعظم الذنوب ..!! فلماذا يحفظون ما لا قدرة لهم عليه ولا يملكون قدرهم بالتوفيق في ذلك ..؟!!

- وللأسف هذا الرأي (النسيان بمعنى ترك العمل بالقرآن) .. كثيرا ما يتم التكتم عنه من بعض الدعاة في كثير من الكتب وعلى الإنترنت .. وإذا ذكره البعض يذكره في ختام بحثه وكأنه رأي ضعيف لا قيمة له ..!! وفي الحقيقة هو نعم الرأي والمتفق مع الكتاب والسنة والعقل ..!!

ثانيا: أما عن فتاوى كثير من العلماء في الماضي كابن تيميه والإمام الرملي والهيثمي في فتاويهم وما ذكروه من أقاويل لبعض أهل العلم .. بأن نسيان القرآن كبيرة من الذنوب والبعض جعله من الكبائر .. فلأنهم اعتمدوا على حديث أبي داوود والترمذي .. وسنفترض أنهم لم يعلموا بضعف هذه الأحاديث .. وهذا اجتهادهم .. وجزاهم الله خيرا .. ولكن لا نهتم بما قالوه لأن الحديث الضعيف لا يحتج به ولا حكم حينئذ يؤخذ منه .. وإنما يجوز الأخذ بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال والقصص إذا كانت لا تعارض عقيدة ولا حكم شرعي ثابت ....!!

- ومن يتستر بأقوال العلماء ككرباج يريد أن يجلد به المؤمنين بعد معرفته اليقينية بضعف الأحاديث فقد كشف عن نفسه أنه يكذب على الله بحكم لم يكن له أن يقول به .. ولا عذر له بالجهل بعد معرفته بالحق .. ونذكره بقوله تعالى (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) النحل116.

- وقد تبين لك أخي الحبيب أن الأحاديث التي يستدل بها البعض عن الوعيد لمن ينسى القرآن إنما هي أحاديث ضعيفة .. فلا يغرك أن تجد في فتوى على النت أو في كتاب من الكتب أن تجد أن من ينسى القرآن قد ارتكب كبيرة من الكبائر وفعل الحرام .. ويستدل لك بأن العالم الفلاني قال بهذا والعالم الفلاني قال بهذا ..!!

- لا .. هذا حكم خاطيء .. لأن النص المستدل به هنا لا يحتج به ..!!

- واعلم أخي الحبيب .. أن من يقل لك بأن فلان قال بالتحريم .. دون دليل على قوله بهذا التحريم .. فهو تحريم مردود عليه .. ولكن دائما ابحث أولا عن قول الله ورسوله في المسألة وتحقق من الأحاديث .. فإن لم تجد نص يفيد بالتحريم أو النهي .. فاعلم أن هذا الكلام المنقول إليك إنما هو محض رأي ولا علاقة له بالدين ..!!

- ومن يقول في زماننا هذا بعد أن يكون عرف بضعف هذه الأحاديث .. بأن من ترك حفظ القرآن هو مرتكب كبيرة وفعل حراما .. إن لم يأت بدليل صحيح يدل على قوله بالتحريم والتأثيم للمؤمنين كما هو الحال عند المتنمرين من أصحاب النفوس المنفرة .. فهو يكون قد كذب على الله لأنه أثبت حكما لا وجود له .. لقوله تعالى (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) النحل116.

*************************

..:: س43: لماذا القائلين بتأثيم من ينسى حفظ القرآن من الذاكرة هم على خطأ ؟ ::..

1- الأحاديث التي استدلوا بها هي ضعيفة .. والضعيف لا يؤخذ منه أحكاما إلا بطرق يقوي بعضها البعض .. وإنما يتساهل في الفضائل .. وليس يؤخذ بالضعيف لنحكم به على الناس أنهم فعلوا كبيرة ونقوم بتأثيمهم ..!! إلا إن كنت من النفوس المنفرة والمتنمرين على المؤمنين .. فلا عجب أن يحدث منك ذلك .. لأنك غالبا ستكون من جماعة (أنا خير منه) ..!! 

2- وأصحاب هذا الرأي الخاص بنسيان الآيات من الذاكرة هو رأي غير جيد في فهم الحديث .. وإنما قوله مخالف لصحيح النص الشرعي ولأهل العقل .. وإليك دليل مخالفته ..

- أولا- أما صحيح النص .. فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَيَعْمَلُ بِهِ كَالأُتْرُجَّةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلاَ رِيحَ لَهَا ..، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ. وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ، أَوْ خَبِيثٌ وَرِيحُهَا مُرٌّ) صحيح البخاري.

- ولا يخفى قول النبي صلى الله عليه وسلم (وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَيَعْمَلُ بِهِ) .. أنه كلام النبي هو مدح للعامل بالقرآن وإن لم يواظب على قرائته .. مع إثبات صفة الإيمان له .. فكيف يقال بعد ذلك أن من ينسى ما يحفظه من القرآن يكن آثم ..؟!! فهل العبرة بالعمل بالقرآن أم بحفظه ؟ وإذا قلت أن التأثيم يقع على ترك الحفظ وعلى ترك العمل ..؟!! فأين دليلك على ذلك ؟ وكيف يتم التسوية بين من من يترك العمل بالقرآن وبمن يترك حفظه حتى ولو تكاسلا منه ..؟!! ففي أي نص مكتوب هذا الكلام ؟!! أم ان دعاة هذا الزمان يريدون تنفير المؤمنين من محاولة حفظ القرآن ؟!! 

- ولا ريب أنهم سيسألون عما كانوا يكتمون من العلم ؟؟!!

2- - قال الإمام بن عبد البر رحمه الله (المتوفى: 463هـ) :

- وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّ ذَلِكَ فِي تَرْكِ الْقُرْآنِ وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِمَا فيه وإن النسيان أريد به ههنا التَّرْكُ نَحْوَ قَوْلِهِ (الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) .. قَالَ: وَلَيْسَ مَنِ اشْتَهَى حِفْظَهُ وَتَفَلَّتَ مِنْهُ بِنَاسٍ لَهُ إِذَا كَانَ يُحِلُّ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُ حَرَامَهُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَاسٍ لَهُ .

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والمسانيد ج14 ص132

* وقال الزرقاني رحمه الله (المتوفى:1122ه) ناقلا كلام بن عيينه رحمه الله بأسلوب أخر فقال:

- وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: النِّسْيَانُ الْمَذْمُومُ هُوَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ وَلَيْسَ مَنِ انْتَهَى حِفْظُهُ وَتَفَلَّتَ مِنْهُ بِنَاسٍ لَهُ إِذَا عَمِلَ بِهِ .

شرح الزرقاني على الموطأ ج2 ص11

- وسفيان بن عيينه هو : سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون مولى محمد بن مزاحم الهلالي إمام ومحدث شهير وعرف بالزهد والورع. وقد ولد في الكوفة سنة 107 هـ وتوفي 198 هـ. أجمع الناس على صحة حديثه وروايته.

3- المتأمل في ألفاظ الحديث (عرضت عليَّ أعمال أمتي، فلم أر ذنبًا أعظم من سورةٍ من القرآن، أو آية أوتيها رجل ثم نسيه) .. سيجد أنه من المستحيل أن يكون نسيان آية أو سورة هو أعظم ذنبا !! وإلا فقد شابهنا هذا الفاعل بالزاني والسارق والقاتل ..!! فهل هذا يعقل يا مؤمن ؟!!

- ولو كان النص قيل فيه (من أعظم الذنوب) لفهمنا أنه من جملتها .. !! ولكن هذه الصيغة في الحديث (فلم أر ذنبًا أعظم) يرشدك على فساد هذا النص بل قد يكون قام بتدليسه أحد المتنمرين في الزمن الماضي ظنا منه أنه بذلك يشجع على حفظ القرآن ..!! كما كان بعض المتمصوفة يضع الحديث في فضائل القرآن ليشجع الناس على قرائته ..!! فاضطر أن يخترع أحاديث وينسبها للرسول ..!! على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة ..!!

4- هل حفظ القرآن كاملا فرض عين أم فرض كفاية ؟ بالتأكيد فرض كفاية بأن يكفي البعض أن يحفظه وليس عموم الأمة .. فلماذا نحمل بعض المؤمنين التأثيم في حين الكثيرون بفضل الله للقرآن حافظون ؟!!

- ثانيا: أما عن العقل .. فيقول لو كان نسيان شيء مما حفظ القرآن ولو آية واحدة  يعتبر أعظم ذنبا عند الله ومن الكبائر .. فمن باب أولى لا نحفظ ..!! لأن من منا يأمن على نفسه النسيان أو أن تلهيه الدنيا فينشغل بها وينسى الآيات ؟!! فلا حرج .. لا داعي للحفظ ..!! طالما الحافظ الناسي توعده الله .. فلا حرج أن نكون من القاريء الذي لا يحفظ ..!! وكيف يعقل أن يعذب الله عبدا ينسى وهو لا يملك القدرة على التذكر أو النسيان ؟!!

- وليس معنى كلامي أن تتجاهل الحفظ .. أو تحريضا على عدم الحفظ .. بل معنى كلامي أن تتقي الله وتتوقف عن القيام بتأثيم المؤمنين وتتوقف عن وضع أحكاما إلهية لا وجود لها في الدين بعد أن ثبت عنده خطأ ما ذهب إليه السابقين .. لعدم صحة الأحاديث المستدل بها ..!!

- ويا من تسعى لتنفير المؤمنين من حفظ القرآن وتحب أن يكون شعارك هو (أنا خير منه) .. وعندك شغف قلبي بتأثيم المؤمنين .. لو قلت بالتحريم بعدما جاءك من العلم في حكم الحديث بأنه ضعيف ولا يحتج به .. فأتنا يا من تقول بالتحريم ببرهان صادق من كلام الله ورسوله ما يؤكد هذا التحريم الذي زعمته .. وإلا فأنت تكون كذبت على الله ونسبت إليه حكما لم يحكم به ..!! وعليك أن تستغفر الله وتتوب إليه من مقولتك .. لأن الأنفاس قليلة ويوم القيامة قريب .. ونصيحة أخيرة لك .. لا تتستر وتختبيء وراء كلام بعض فتاوى العلماء طالما علمت الحق وتيقنت به ..  

- تبقى لك أخي المحب لحفظ القرآن أن أجيبك عن مقصد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بِئْسَما لأَحَدِهِمْ يقولُ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وكَيْتَ، بَلْ هو نُسِّيَ، اسْتَذْكِرُوا القُرْآنَ فَلَهو أشَدُّ تَفَصِّيًا مِن صُدُورِ الرِّجالِ، مِنَ النَّعَمِ بعُقُلِها) صحيح البخاري.

- وهذا الحديث ستجد الكلام عنه .. في الجزء القادم إن شاء الله تعالى .

*******************

يتبع إن شاء الله تعالى

*****************

والله أعلم

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وسلم

هذه الرسالة مصدرها - مدونة الروحانيات فى الاسلام -  ولا يحق لأحد نقل أي موضوع من مواضيع أو كتب أو رسائل المدونة .. إلا بإذن كتابي من صاحب المدونة - ا/ خالد أبوعوف .. ومن ينقل موضوع من المدونة أو جزء منه (من باب مشاركة الخير مع الآخرين) فعليه بالإشارة إلى مصدر الموضوع وكاتبه الحقيقي .. ولا يحق لأحد بالنسخ أو الطباعة إلا بإذن كتابي من الأستاذ / خالد أبوعوف .. صاحب الموضوعات والرسائل العلمية .