بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة
"الغيب والعرافة والكهانة"
(الجزء الثاني من الرسالة)
(الجزء الخامس
والعشرون)
* فهرس:
:: الفصل الخامس والعشرون :: إشكاليات على أحاديث الأحكام المتعلقة بالكهانة والعرافة ::
1- س133: كيف نجمع بين أحاديث العقوبات في إتيان الكاهن والعراف لأن
في ظاهرها التعارض ؟
2- س134: ما معنى قول النبي فيمن يذهب للعراف والكاهن بأنه
(لَمْ تُقْبَلْ له
صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً) ؟
3- س135: رأي خاص بالأستاذ (خالد صاحب الرسالة) في فهم حديث (لا يقبل له صلاة أربعين ليلة) ؟
4- س136: كيف لا تقبل من طالب العرافة صلاة أربعون يوما
وباب التوبة مفتوح للعاصي وللكافر ؟!!
5- س137: هل يلزم إعادة صلوات الأربعون ليلة التي منع من قبول ثوابها
؟
6- س138: لماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم بتكفير من
يصدق العراف والكاهن ؟ وهل مصدق العراف هو مكذب للقرآن ؟
7- س139: لماذا يُكفَّر من يذهب للعراف لو صدَّقه في حين لا يُكفَّر
من يغتصب النساء ويقتل العباد ويفسد في الأرض ؟ *********************:: الفصل الخامس والعشرون :::: إشكاليات على
أحاديث الأحكام المتعلقة بالكهانة والعرافة ::****************..:: س133: كيف نجمع بين أحاديث العقوبات في إتيان الكاهن والعراف لأن
في ظاهرها التعارض ؟ ::..
-
قد يخطر ببالك سؤال فتقول: كيف نجمع
بين أحاديث الأحكام الثلاثة في إتيان الكهان والعرافين والمنجمين وأشباههم .. حيث
تنوعت العقوبات ما بين نهي فقط إلى عدم قبول صلاة ثم إلى كفر .. وهذا قد يشير إلى
وجود تعارض بينها .. فما سبب ذلك ؟
#- قلت (خالد
صاحب الرسالة):
#- أولا: الأحاديث التي هي محل
الأحكام على من يذهب للعراف والكاهن:
1- الحديث الأول: الذي سأل
فيه أحد الصحابة وقال له: (قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أُمُورًا كُنَّا نَصْنَعُها في الجاهِلِيَّةِ،
كُنَّا نَأْتي الكُهّانَ، قالَ: فلا تَأْتُوا الكُهّانَ) صحيح مسلم.
- فهذا الحديث من حيث سؤالك
أو استماعك أو القراءة للعراف والكاهن والمنجم وأشباههم .. مثلما يحدث على
التليفزيون واليوتيوب ومواقع الشبكات الإجتماعية .. فتستمع وتقرأ له تنبؤاته .. تحت
مسمى الفضول والتسلية مع عدم
التصديق له ولا سؤاله في شيء ..
2- الحديث الثاني: وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن أتَى
عَرَّافًا فَسَأَلَهُ
عن شيءٍ، لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً) صحيح مسلم .
- وفي رواية بلفظ: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ
صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا) رواه أحمد .. وقال الأرنؤوط: صحيح على شرط
مسلم ..
- وهذا من
حيث ذهابك لتسأل
العراف والكاهن والمنجم وتصدقه
في كلامه الذي أخبرك به من الغيبيات التي سألت عنها لنفسك .. وذلك من خلال
سؤاله على في موقعه على الإنترنت أو من خلال برامج الموبايلات كالواتسآب والفيسبوك
.. أو تذهب إليه في محله أو في بيته .. أو تراسله على الإيميل أو البريد .. أو
تتصل به على الفون .. لتسأله عن الغيب (مع عدم التصديق له بأن كل كلامه صدق وحق)
..
3- الحديث الثالث: وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَتى عَرَّافاً أَوْ كاهِناً
فَصدَّقَهُ بِما يقولُ؛ فقد كَفَر بِما أُنْزِلَ على مُحمَّدٍ) رواه الحاكم .. وقال: هذا حديث صحيح ..
ورواه أحمد بلفظ (مَنْ أَتى كاهِناً أَوْ عَرَّافاً)
وقال الأرنؤوط: حديث حسن .
- وهذا من
حيث من يذهب للعراف والمنجم والكاهن ليسأله فيصدقه في
كل ما قاله كأنه قال له علم يقين .. ويؤمن بالعراف أنه يعلم الغيب فعلا ..
#- هناك رواية حديث لم أستدل
بها لضعفها .. ولكن أحب الإشارة إليها لتعرفها .. حيث رويت عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ بَرِئَ
مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ أَتَاهُ
غَيْرَ مُصَدَّقٍ لَهُ، لَمْ يُقْبَلْ لَهُ صَلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا) رواه لطبراني في الأوسط .. وهو حديث ضعيف في سنده لين كما
قال بن حجر .. وذكره الألباني في ضعيف الترغيب وفي الضعيفة..
-
والحديث وإن كان سنده ضعيف إلا أن معناه صحيح .. وبهذا يظهر الفرق بين حديث
صحيح مسلم وما رواه الحاكم .. حيث أن علة التفرقة بينهما هو التصديق كما يتضح من
الروايتين .. والله أعلم .
# ثانيا:
تفصيل وبيان للأحاديث الثلاثة السابقة:
- ذكر الإمام
المنذري في الترغيب والترهيب حديثا جاء فيه مَنْ أَتَى
عَرَّافاً فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَصَدَّقَهُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ
أَرْبَعِينَ يَوْمَاً) .. ثم قال بعده .. رواه مسلم ..!!
- ووجدت تعليق الشيخ الألباني عليه فقال رحمه الله:
- "وليس
في مسلم "فصدقه"، وفيه "ليلة" بدل "يوماً". وإنما
هو في "مسند أحمد" صحيح الترغيب ج3 ص171 .
#- قلت (خالد صاحب الرسالة)
.. تعليقا على ما سبق:
- من خلال
التنبيه الذي أشار إليه الشيخ الألباني قد جعلني أنتبه لهذا الأمر .. ولذلك رجعت
لصحيح مسلم ورجعت إلى مسند أحمد .. وجدت أن هذه الرواية التي ذكرها الإمام المنذري
والمشهورة في كثير من كتب أهل العلم .. هي رواية أفهم مما سبق بيانه أنه قد تم
جمعها ودمجها من الروايتين معا .. أي من رواية أحمد ومسلم ..
- ولكن في
الحقيقة لا يوجد رواية بهذا اللفظ فعلا الذي ذكره الإمام المنذري ..!!
#-
وإذا كان البعض قد جمع رواية أحمد ورواية مسلم .. لأن السند واحد .. فأخرج السياق في شكل واحد
.. إلا أن هذا لا يصح .. لاختلاف المعنى المترتب على كلا منهما .. كيف ذلك ؟
1-
فرواية الإمام مسلم تقول: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا
فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)
رواه مسلم.
- ويفهم منها
.. أن مجرد الذهاب للعراف سواء صدقت أم لم تصدق فلم تقبل لك ثواب صلاة أربعين ليلة
..
- ولا يوجد
في الحديث لفظ (فصدقه) ..
2-
ورواية الإمام أحمد تقول: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا
فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا) رواه
أحمد ..
- ويفهم منها
أن من ذهب للعراف فصدقه فلا تقبل له صلاة أربعين يوما .. ولكن من لم يصدقه فلا حرج
عليه ..!!
- ويوجد هنا
في الحديث لفظ (فصدقه) ولم يظهر لفظ (فسأله) .. كما أنه قال (أربعين
يوما) .. وفي رواية مسلم قال (أربعين ليلة)
..
-
علما بأنني لم أجد أحد من محققي الأحاديث قال أن هذه الزيادة منكرة في رواية أحمد ..
أي زيادة لفظ (مصدقا) ..!!
#- ولذلك تأمل
الفرق بين فقه الحديثين ..
1-
فحديث مسلم يعتبر العقوبة لمن ذهب للعراف عموما سواء صدق أم لم يصدق ..
2-
وحديث أحمد ربط هذه العقوبة بالتصديق ..
#- وهنا
نصبح في حيرة .. !!
- فهل نأخذ
بحكم الذهاب العام سواء صدقنا أم لم نصدق العراف .. أم نأخذ بالحكم الخاص الذي ربط
الذهاب بالتصديق ؟!!
-
الذي عليه بعض العلماء ممن قرأت لهم هو .. أن رواية مسلم عقوبتها مرتبطة بمن يصدق وإن
لم يظهر فيها ذلك وإنما ظهر
ذلك في رواية الإمام أحمد .. لأن هناك من يذهب للعراف مستهزأ به ومتحديا له
أو ناصحا له أو كما يحدث في زماننا يأتون صفحات الكهان والعرافين تسلية وفضولا وليس
تصديقا له .. فكيف حينئذ تلحقه العقوبة المذكورة في الحديث ..!!
- وحتى هذه المسألة السابقة فلا إشكال فيها .. لأن بمجموع الروايتين يتضح أن العقوبة
مخصصة ومرتبطة بتصديق العراف.. ولكن الإشكال فيما سيأتي ..
#- ظهور تعارض بين حديثين في الحكم لنفس المسألة :
1-
جاء في رواية الحديث (مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ
كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ
فِيمَا يَقُولُ .. فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رواه الحاكم وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ .. ووافقه
الذهبي ..
2-
وفي الرواية التي ظهرت معنا من رواية أحمد التي جاء فيها : (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ .. لَمْ تُقْبَلْ لَهُ
صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا) رواه أحمد ..
-
وهنا سؤال: أي الحكمين هو الصحيح .. حيث يظهر من وراء ذلك تعارض ظاهر .. بظهور حكمين
لنفس المسألة:
- هل الذي
يصدق العراف لا تقبل منه صلاة أربعين ليلة .. ؟!!
- أم الذي
يصدق العراف يكون قد كفر بما أنزل على محمد .. ؟!!
- فأي حكم هو
الصحيح حينئذ ؟!! لأنه لا يصح الحكمين معا .. فالأول حكم بالعصيان .. والثاني حكم
بالخروج من الدين ..!!
#- قلت (خالد صاحب الرسالة):
1-
قد يكون المقصد من حديث (فصدقه) رواه
أحمد .. أي أن الذي ذهب للعراف صدق ما قاله العراف له فيما سأله عنه .
2-
ويكون المقصد من حديث (فصدقه) رواه
الحاكم .. أي مصدقا له بأنه يعلم الغيب في العموم لأي شخص ولأي حدث يكون في الدنيا
.. ودليل ذلك أن لفظ الكاهن في الحديث هو الذي من أحواله أنه يزعم معرفة الأخبار
العامة التي ستحدث ..
-
فالحديث الأول الخاص بعدم قبول صلاة أربعين ليلة يتعلق بما يصدقه الشخص
من العراف فيما سأله من مسائل تتعلق به شخصيا .. وليس بالضرورة أن يقول عنه هذا
الشخص أنه يعلم الغيب الذي يعلمه الله ..
-
ولكن الحديث الثاني الذي حكمه الكفر بما أنزل على محمد فهو يتعلق بمن يعتقد
في عراف أو كاهن بأن له علم الغيب مطلقا كما هو لله .. وهذا يكون موجود غالبا في
بعض الدول التي غاب عنها الإيمان ولم يعد فيها أهل توجيه وإرشاد .
- هذا اجتهادي والله أعلم ..
#- ملاحظة:
-
وقال بعض العلماء في الأحاديث السابقة .. أنهما حكمين لنفس المسألة .. وهذا شيء لا أجده معقول .. لأن الحكم الأول
يجعلك عاصيا لله فقط ويتطلب توبة واستغفار .. ولكن الحكم الثاني يخرجك من الدين ويتطلب
تجديد الإيمان مع التوبة والاستغفار ..!! فكيف يمكن الجمع بين هذين الحكمين هكذا
في مسألة واحد فيهما هذا التناقض حينئذ ..؟!!
- ولذلك اجتهدت في فهم الأحاديث والجمع بينها
.. فإن كنت قد وفقت فيه فمن الله .. وإن اخطأت فمن نفسي .. والله أعلم .
#-
ملحوظة هامة جدا:
- سبق الكلام على هذه الأحاديث السابقة بالتفصيل في
الفصل الرابع والعشرون عند السؤال رقم (131) ..
*********************..:: س134: ما معنى قول النبي فيمن يذهب
للعراف والكاهن بأنه (لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً) ؟ ::..
- جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن أتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عن شيءٍ، لَمْ تُقْبَلْ له
صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً) صحيح مسلم .
- قوله (لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ
أرْبَعِينَ لَيْلَةً): قال في تفسير ذلك العلماء بأن المقصد منه هو
عدم قبول ثواب هذه الصلوات .. حيث أن لكل عمل مطلوب منك .. فيه قبول عمل بإسقاط
الملامة عليك لو فعلته ولا عقاب عليك .. وهناك قبول عمل بمزيد إكرام منه عليك بأن
يكافئك عليه من واسع فضله وبركة رحمته..
- فالذي لا يقبل في الحديث .. هو قبول الكرامة والثواب على عملك .. وليس
مجرد قبول العمل منك من أساسه ..!!
- ونجد ما سبق في أقول الأئمة من مفسري
الحديث .. وإليك بعضا منها:
1- قال الإمام القرطبي مفسر صحيح مسلم رحمه الله (656 هـ):
وهذا
يدلّ على أن إتيان العرافين كبيرة، وظاهره أن صلاته في هذه الأربعين تحبط وتبطل،
وهو خارج على أصول الخوارج الفاسدة في تكفيرهم بالذنوب، وقد بيَّنا فساد هذا الأصل
، وأنه لا يحبط الأعمال إلا الردة.
-
وأما غيرها فالحسنات تبطل السيئات كما قال تعالى: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذهِبنَ
السَّيِّئَاتِ} وهذا مذهب أهل السنَّة والجماعة، فليس معنى قوله لا تقبل له صلاة
أن تحبط، بل إنما معناه -
والله أعلم – أنَّها لا تقبل قبول الرضا وتضعيف الأجر. لكنه إذا فعلها على
شروطها الخاصة بها فقد برئت ذمّته من المطالبة بالصلاة وتُقصَى عن عهدة الخطاب
بها، ويفوته قبول المرضي عنه وإكرامه وثوابه.
-
ويتضح ذلك باعتبار ملوك الأرض، ولله المثل الأعلى، وذلك أن المُهدِي إما
مردودٌ عليه أو مقبول منه، والمقبول إما مقرَّب مُكرَّم مثاب وإما ليس كذلك ..
- فالأول هو المبعدُ المطرود
-
والثاني هو المقبول القبول التام الكامل
- والثالث لا يصدق عليه أنه مثل الأول فإنه
لم تردَّ هديته، بل قد التفت إليه وقُبلت منه، لكنه لما لم يُثب ولم يُقرَّب صار
كأنه غير مقبول منه، فيصدق عليه أنَّه لم يُقبل منه إذ لم يحصل له ثواب ولا إكرام.
(راجع
المفهم في شرح صحيح مسلم ج5 ص636)
2-
وقال الإمام
النووي رحمه الله (المتوفى: 676هـ) حيث
قال:
- وَأَمَّا عَدَمُ قَبُولِ صلاته
فمعناه أنه لا ثواب لَهُ فِيهَا .. وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَةً فِي سُقُوطِ الفرض
عنه ولا يحتاج مَعَهَا إِلَى إِعَادَةٍ ..
- وَنَظِيرُ هَذِهِ .. الصَّلَاةُ فِي الأرض المغصوبة
مجزئة مسقطة للقضاء ولكن لا ثواب فِيهَا .. كَذَا قَالَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا
قَالُوا فَصَلَاةُ الْفَرْضِ وَغَيْرُهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ إِذَا أُتِيَ بِهَا
على وجهها الكامل ترتب عليها شيئان .. سقوط الفرض عَنْهُ .. وَحُصُولُ الثَّوَابِ .
- فَإِذَا أَدَّاهَا فِي أَرْضٍ مغصوبة حصل
الأول دون الثانى ..
- ولابد من هَذَا التَّأْوِيلِ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ .. فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ متفقون على أنه لا يلزم مَنْ أَتَى
الْعَرَّافَ إِعَادَةُ صَلَوَاتِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَوَجَبَ تَأْوِيلُهُ . (راجع شرح النووي على صحيح مسلم ج14 ص277).
3- وقال الشيخ محمد
الأمين الهرري رحمه الله (المتوفى:1441هـ):
- (لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) أي قبول كمال وإثابة عليها لا
قبول إجزاء وإسقاط فرض فإنها تقبل منه وتسقط الفرض عن ذمته.
4-
قلت (خالد صاحب
الرسالة):
- وجدت رأيا لبعض المشايخ .. يرى أن قول القرطبي والإمام
النووي ومن رضي برأيهما أن هذا القول هو محل نظر .. فقال ما معناه:
- لو كان رأيهم صحيح .. فماذا سيقولون في حديث النبي (لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أحَدِكُمْ إذا أحْدَثَ حتَّى
يَتَوَضَّأَ) صحيح البخاري..
- فهل إذا
صلى الانسان حينئذ بدون وضوء هل تقبل الصلاة وتبرأ ذمته ولكن ليس له ثواب ؟!! لا
يمكن ذلك ..
- ثم قال: (لا يقبلُ اللَّهُ صلاةَ حائضٍ إلَّا بخِمارٍ) صحيح أبي
داود .. فهل إذا صلت المرأة التي بلغت الحيض بدون خمار تكون برئت ذمتها من الصلاة
وتم قبولها دون ثواب لها ..!! لا يمكن ذلك.
- فثبت بذلك أن من يذهب
للعراف فلا تقبل منه صلاة أربعين ليلة أي لا تبريء ذمته منها وليس فقط فقد ثوابها
..!!
#- قلت (خالد صاحب الرسالة) تعقيبا على الرأي السابق:
- هذا
القياس الذي استخدمه الشيخ على حديث العرافة هو قياس فاسد وباطل من وجوه:
1-
فحديث
العرافة .. يتكلم عن مسألتين لا
ارتباط لهما ببعض .. فالصلاة عبادة لله .. ولكن اتيان العراف معصية .. فالرابط
بينهما فقط هو سلب نوع من العطاء من أجر عبادة
بسبب هذا العصيان .. فهذه عقوبة مترتبة على معصية ..!!
- كما هو حال المفلس يوم القيامة .. الذي يصلي ويصوم
ويغتاب خلق ربنا ويؤذيهم .. فيسلب الله منه ثواب هذه الطاعات ويمنحها لمن أغتابهم
وأذاهم .. ولكن قد سقطت عنه ذمتها بتأديتها ولا يعاقبه الله عليها .. فقد جاء في
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَتَدْرُونَ ما
المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ
مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ
هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا
مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى
ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ)
صحيح مسلم.
- ففي الحديث السابق إذا لم تكن
قبلت منه صلاته وصيامه فكيف أخذ من ثوابها وأعطاها لمن لهم حقوق عليه ؟!!
2-
أما حديث
عدم قبول الصلاة بسبب فقد الوضوء .. فالوضوء هو شرط لازم لعبادة الصلاة .. والخمار هو شرط لازم للصلاة .. لأنه
ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .. فهذه أمور تتعلق بشروط صحة الصلاة .. وفقد
الوضوء والخمار ليس معصية تم ارتكابها فسقطت عنه الصلاة بسببها .. لا .. هذا فقد
لشرط صحة الصلاة يجب فعله .
- فالوضوء والخمار من جنس عبادة الصلاة وشرط في صحتها .. بخلاف العرافة ليس من جنس عبادة الصلاة ولا شرط لصحتها ..!!
- فهل يقال
أن من شروط صحة الصلاة هو عدم إتيان العراف ؟!! بكل تأكيد .. لا ..
3- لو كان مقصد
حديث العرافة يقصد به إحباط فرض الصلاة كأنك لم تؤديها أصلا .. كما يقول صاحب هذا الرأي .. ولعله يتفق مع رأي الخوارج من قبل .. فهنا
نقول: لماذا يصلى العبد حينئذ طالما أحبطت الصلاة لمدة أربعون يوما وتم تيئيس
العبد من رحمة الله ؟!! طالما في كل الأحوال هي غير مقبولة وسيحاسب عليها كالذي لم
يصليها أصلا ..!!
4- وعلى هذا الرأي فقد ساوى
بين المصلي الذي ذهب للعراف وبين تارك الصلاة ..!! كيف يعقل هذا وأين العدل في ذلك
؟!!
5- وعلى هذا
الرأي يكون تم التسوية بين المؤمن العاصي وبين الكافر المرتد بعد إيمانه .. فساوى بينهما في الحكم .. حيث أن المرتد تحبط صلاته وكأنها لم تكن
موجودة .. وهذا كلام لا يمكن أن يقول به مؤمن ..!!
- فكيف يعقل أن يتم مساواة المؤمن بالكافر المرتد عن دينه .. في أن كلاهما تم إحباط صلاته ..!! بكل تأكيد هذا كلام لا يتم قبوله في أي
عقل ..!!
- لأن الذهاب للعراف هو نوع من المعصية .. وليس ارتداد عن الدين ..!!
6- بل أن هذا
الرأي يجعل الملحد يتهم الله (وحاشاه) أنه ظالم .. إذ كيف من ذنب واحد .. يعاقبه الله بأن يضيف إليه ذنوب أربعين ليلة كأنه
تارك للصلاة .. حتى ولو صلاها ..!! أهذا كلام يقول به مؤمن أو عاقل ؟!! ولا يخفى
بطلان هذا بالقرآن لأن الله يقول: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)
الشورى40 ..
- ولذلك فإن رأي هذا الشيخ هو رأي مخالف للقرآن .. بل وقد يتخذ الملحد مثل هذا الرأي في تشكيك المؤمن في دينه لأنه سيقول
حينئذ بأنه كيف الله يظلم عباده لأنه عاقب العبد من ذنب واحد بأن أضاف عليه ظلما كثيرا
.. حيث أضاف عليه ذنوب أربعين ليلة كعقوبة لتركه الصلاة أربعين ليلة .. في حين هو كان
يصلي .. أيعاقبه على صلاته له ..؟!!
7- والذي يرشدك إلى مخالفة هذا الرأي للقرآن .. هو أن القرآن يقر مبدأ أن الحسنات يذهبن السيئات .. وليس الحسنات تزيد
السيئات تزيد السيئات أضعافا مضاعفة !! كالذي أصبحت صلاته لعنة عليه حيث فجأة تساوى
بتارك الصلاة ..!! فكيف يعقل ذلك ؟!!
8- وأخيرا نقول لصاحب هذا الرأي .. أن الحديث قال (لا تقبل له) يعني لا تقبل له
أجر وثواب صلاة أربعين ليلة .. ولم يقل النبي (لم تقبل
منه) .. حتى لا تظن أن منع القبول هو مساواته بتارك الصلاة .. والله أعلم.
#- فتبين لك مما سبق مدى فساد هذا
الرأي ..!! والله أعلم
.
******************** ..:: س135: رأي خاص بالأستاذ (خالد صاحب
الرسالة) في فهم حديث (لا يقبل له صلاة أربعين ليلة) ؟ ::..
- جال بخاطري ظن في مفهوم كلمة الصلاة في رواية الحديث
.. (مَن أتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عن شيءٍ، لَمْ
تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً) صحيح مسلم .
1- فأحسب أنه قد يكون المقصود بالصلاة في
الحديث هي (الدعاء) كما بمعناها اللغوي .. فيكون المعنى: لا يقبل له دعاء لمدة
أربعين ليلة .. عقابا له لأنه لم يسأل الله ويستخيره فيما طلبه منه .. بل سأل من
العراف أن يكشف عن الخير فيما سأله عنه .. فكان العقاب من جنس العمل .. وهو حجاب قبول
دعاء من طلب العرافة .. تأديبا له على ما فعله .. حتى إذا أراد معرفة الخير فيما
لا يعلم فليتوجه إلى الله .. ولا يتوجه إلى عراف .. والله أعلم .
2- والذي قد يزكي من هذا الرأي هو أن لفظ الحديث (لم
تقبل له) ولم يقل (لم تقبل منه) .. وهذا أيضا ينسجم أكثر لو تأولنا الصلاة
بمعنى الدعاء .. فيكون المعنى لا يقبل له دعاء أربعين ليلة ..
3- ومنع الدعاء هنا يكون متعلق بالقبول وليس
بالدعاء نفسه .. فإذا مرت الأربعين يوميا رفع دعاءك الذي كنت تدعوه خلال
هذه الفترة .. لأنه لم يعد محجوبا .. فلا يوجد شيء يضيع من عبادتك مع الله .. وإنما قد يحدث توقف بسبب
شيء أنت تفعله او فعلته مع الله بصورة خاطئة هي التي تحجب عنك وصالك بالله ..
فانتبه ..
- وفترة الحجاب لقبول الدعاء قد تمتد بقدر
المعصية التي فعلتها .. فمثلا قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ولم
يخرجوا للجهاد مع النبي .. هؤلاء لم يكفروا بالله ورسوله .. وإنما عصوا .. وكان
عصيانهم له عقوبة امتدت لخمسون يوما حتى قبل الله توبتهم .. وكانوا يدعون الله
ولكن كان حجاب المعصية التي فعلوها مانع من وصول هذا الدعاء .. حتى صدقوا في
توبتهم فانفتح باب الدعاء وقبل توبتهم ..
4- وتأويل الصلاة بمعناها اللغوي ليس بأمر
مستغرب .. فهي بمعنى الدعاء في القرآن مثل قوله تعالى للنبي: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ
بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) التوبة103 ..
- وأيضا الصلاة جاءت في الأحاديث بمعنى
الدعاء .. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ
المَلَائِكَةَ تُصَلِّي علَى أَحَدِكُمْ ما دَامَ في مَجْلِسِهِ، تَقُولُ:
اللَّهُمَّ اغْفِرْ له، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، ما لَمْ يُحْدِثْ، وَأَحَدُكُمْ في
صَلَاةٍ ما كَانَتِ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ) صحيح مسلم.
- وكما في حديث أبي بن كعب حينما قال: (قلتُ : يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أُكْثِرُ الصَّلاةَ علَيكَ
فَكَم أجعلُ لَكَ مِن صلاتي ؟ فقالَ : ما شِئتَ قالَ : قلتُ : الرُّبُعَ ، قالَ :
ما شئتَ فإن زدتَ فَهوَ خيرٌ لَكَ ، قُلتُ : النِّصفَ ، قالَ : ما شِئتَ ، فإن
زدتَ فَهوَ خيرٌ لَكَ ، قالَ : قلتُ : فالثُّلُثَيْنِ ، قالَ : ما شِئتَ ، فإن
زدتَ فَهوَ خيرٌ لَكَ ، قلتُ : أجعلُ لَكَ صلاتي كلَّها قالَ : إذًا تُكْفَى
هَمَّكَ ، ويُغفرَ لَكَ ذنبُكَ) صحيح الترمذي .
- فقوله (كم أجعل لك من
صلاتي): أي كم أخصص لك في دعاء بان أصلي عليك ..
- وقوله (أجعل لك صلاتي
كلها): أي اجعل لك دعائي كله هو الصلاة عليك ..
#- وخلاصة
القول:
1- هو أن رأيي الخاص في فهم حديث عقوبة
طالب العرافة .. وهو أن الصلاة تحتمل أن تكون بمعنى الدعاء .. ويكون المعنى لم يقبل له
دعاء أربعين ليلة ..
- ويكون حال من يذهب للعراف يكون كحال قاطع الرحم والداعي بما فيه معصية .. من
الذين لا تقبل دعوتهم .. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)
رواه مسلم.
- والله أعلم ..
2- وإذا كنت أشرت برأيي في فهم معنى للحديث لم
يذكره أحد .. فهذا ليس معناه أنني أنكر أو اعترض على
الرأي الأول الذي قاله الإمام النووي والقرطبي ..
لا بل هذا الرأي طالما اخترته .. إلا أنني نظرت للحديث بنظرة أخرى ورأيت أن مفهوم
الصلاة بمعنى الدعاء قد يكون فهما أقرب للحديث النبوي ويتناسب مع سياقه كلامه ..
!!
- والله أعلم .
*************************** ..:: س136: كيف لا تقبل من طالب العرافة
صلاة أربعون يوما وباب التوبة مفتوح للعاصي وللكافر ؟!! ::..
- حينما تقرأ حديث (مَن أتَى
عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عن شيءٍ، لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً)
صحيح مسلم ..
- قد يخطر ببالك سؤال فتقول: كيف لا تقبل من طالب العرافة صلاة أربعون يوما وباب
التوبة مفتوح للعاصي .. بل حتى الكافر لو تاب الآن وآمن تقبل توبته .. فكيف لا
يكون ذلك للمؤمن الذي عصى ..؟!!
#- قلت (خالد
صاحب الرسالة):
- لعلك أخي الحبيب تفترض بسؤالك هذا .. أن معنى قوله في الحديث (لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ
أرْبَعِينَ لَيْلَةً)
بمعنى أنه غير مقبول الصلاة ويعامل كمعاملة تارك الصلاة ؟!!
- وهذا خطأ منك في الفهم .. ليه ؟
1- لأن المعصية لا
تحبط العمل وإنما الذي يحبط العمل ويمحوه عنك كأنك لم تفعله هو إن أصبحت مرتد عن
الدين وكفرت به لقوله تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ
عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
البقرة217 ..
2- ولكن مقصد الحديث .. كما سبق وأوضحنا ذلك في أسئلة سابقة هو أن ثواب هذه الصلوات لا يتم قبوله
منك وكان فضل هذه الصلات التي كان سيمنحه الله لك قد تم حرمانك منه ..
- فيكون قوله (لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً) .. يعني لا تقبل له أجر وثواب صلاة أربعين
ليلة .. ولم يقل النبي (لم تقبل منه) .. حتى لا
تظن أن منع القبول هو مساواته بتارك الصلاة .. لا .. وإنما منع القبول هنا هو منع
المكافأة والثواب والجزاء على عمل الصلاة .. ولكن سقط عنك الفرض طالما صليته
وأديته .. وطبعا لو لم يصلي أصلا فهذا له عقاب آخر لأنه ترك الصلاة ..!!
3- ومما سبق يتبين خطأ سؤالك .. وذلك لأن بأن
باب التوبة مفتوح والصلاة لازالت موجودة ومقبولة كفعل طاعة يسقط عنها العقاب لك في
الآخرة ..
- وأن الذي يتم الحرمان منه أو العقوبة عليه .. هو شيء من فضل الله كان يمنحه لك على سبيل الفضل
والكرامة .. وهو ثواب فعل الصلاة .
4- وحتى
لو كان معنى الحديث بأن الصلاة بمعنى الدعاء كما تصورت ذلك في رأيي الخاص بمفهوم معنى (لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً) ..
- فكما قلت سابقا أن منع الدعاء هنا يكون
متعلق بالقبول وليس بالدعاء نفسه .. فإذا مرت الأربعين يوميا رفع دعاءك الذي كنت
تدعوه خلال هذه الفترة .. لأنه لم يعد محجوبا .. فلا يوجد شيء يضيع من عبادتك مع الله .. وإنما قد
يحدث توقف بسبب شيء أنت تفعله مع الله بصورة خاطئة هي التي تحجب عنك وصالك بالله
.. فانتبه ..
- حتى أن توبة طالب العرافة أو العراف
نفسه .. خلال هذه الفترة تكون مقبولة إن شاء الله .. لأن التوبة ندم على ما فعلته
في حق الله ولا تريد العودة إليه .. وطلب الغفران من الله وكل دعاءك يظل معلقا
فترة حتى تنتهي عقوبتك وينزل عليك بكرامة العفو والغفران التي طلبتها ..
- ولك خير دليل على ما ذكرته لك .. في قصة الصحابة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة
تبوك بدون عذر فلم يذهبوا للجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم .. وقد تاب الله
عليهم وقبلهم وعفا عنهم .. بعد
خمسون يوما .. من الصبر على عقاب الله فيهم .. وجاء ذكرهم في القرآن حيث
قال تعالى: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ
الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ
عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ
ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التوبة118.
- فهل هؤلاء الثلاثة لم يصلوا ولم يذكروا
وامتنعوا عن الإيمان حينما وجدوا عقوبة من الله لهم بأن يتجاهل المسلمين التعامل
معهم ؟ أم أنهم أصروا على الإنكسار لله والإخلاص له ورضوا بالعقوبة التي نزلت بهم
.. حتى نزل فيهم قرآن بقبول توبتهم وغفران الله لهم ؟!!
- بل أعلنوا الإخلاص مع الله في صدق توبتهم
إليه .. ولذلك استحقوا ما وصلوا إليه ولكن بعد خمسون يوما من الإبتلاءات .. ومن أشد
الابتلاءات التي مرت عليهم هو تجاهل التعامل معهم من النبي وكل المسلمين لهم ..!!
فما كان أصدق توبتهم فعلا وما أقوى عزيمتهم في دوام الإنكسار لله مهما حدث ..
لأنهم فعلا صدقوا في توبتهم .. فكانوا مع الصادقين الذين يحبهم الله ..!!
-
والله أعلم .
..:: س133: كيف نجمع بين أحاديث العقوبات في إتيان الكاهن والعراف لأن
في ظاهرها التعارض ؟ ::..
-
قد يخطر ببالك سؤال فتقول: كيف نجمع
بين أحاديث الأحكام الثلاثة في إتيان الكهان والعرافين والمنجمين وأشباههم .. حيث
تنوعت العقوبات ما بين نهي فقط إلى عدم قبول صلاة ثم إلى كفر .. وهذا قد يشير إلى
وجود تعارض بينها .. فما سبب ذلك ؟
#- قلت (خالد
صاحب الرسالة):
#- أولا: الأحاديث التي هي محل
الأحكام على من يذهب للعراف والكاهن:
1- الحديث الأول: الذي سأل
فيه أحد الصحابة وقال له: (قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أُمُورًا كُنَّا نَصْنَعُها في الجاهِلِيَّةِ،
كُنَّا نَأْتي الكُهّانَ، قالَ: فلا تَأْتُوا الكُهّانَ) صحيح مسلم.
- فهذا الحديث من حيث سؤالك
أو استماعك أو القراءة للعراف والكاهن والمنجم وأشباههم .. مثلما يحدث على
التليفزيون واليوتيوب ومواقع الشبكات الإجتماعية .. فتستمع وتقرأ له تنبؤاته .. تحت
مسمى الفضول والتسلية مع عدم
التصديق له ولا سؤاله في شيء ..
2- الحديث الثاني: وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن أتَى
عَرَّافًا فَسَأَلَهُ
عن شيءٍ، لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً) صحيح مسلم .
- وفي رواية بلفظ: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ
صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا) رواه أحمد .. وقال الأرنؤوط: صحيح على شرط
مسلم ..
- وهذا من
حيث ذهابك لتسأل
العراف والكاهن والمنجم وتصدقه
في كلامه الذي أخبرك به من الغيبيات التي سألت عنها لنفسك .. وذلك من خلال
سؤاله على في موقعه على الإنترنت أو من خلال برامج الموبايلات كالواتسآب والفيسبوك
.. أو تذهب إليه في محله أو في بيته .. أو تراسله على الإيميل أو البريد .. أو
تتصل به على الفون .. لتسأله عن الغيب (مع عدم التصديق له بأن كل كلامه صدق وحق)
..
3- الحديث الثالث: وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَتى عَرَّافاً أَوْ كاهِناً
فَصدَّقَهُ بِما يقولُ؛ فقد كَفَر بِما أُنْزِلَ على مُحمَّدٍ) رواه الحاكم .. وقال: هذا حديث صحيح ..
ورواه أحمد بلفظ (مَنْ أَتى كاهِناً أَوْ عَرَّافاً)
وقال الأرنؤوط: حديث حسن .
- وهذا من
حيث من يذهب للعراف والمنجم والكاهن ليسأله فيصدقه في
كل ما قاله كأنه قال له علم يقين .. ويؤمن بالعراف أنه يعلم الغيب فعلا ..
#- هناك رواية حديث لم أستدل
بها لضعفها .. ولكن أحب الإشارة إليها لتعرفها .. حيث رويت عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ بَرِئَ
مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ أَتَاهُ
غَيْرَ مُصَدَّقٍ لَهُ، لَمْ يُقْبَلْ لَهُ صَلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا) رواه لطبراني في الأوسط .. وهو حديث ضعيف في سنده لين كما
قال بن حجر .. وذكره الألباني في ضعيف الترغيب وفي الضعيفة..
-
والحديث وإن كان سنده ضعيف إلا أن معناه صحيح .. وبهذا يظهر الفرق بين حديث
صحيح مسلم وما رواه الحاكم .. حيث أن علة التفرقة بينهما هو التصديق كما يتضح من
الروايتين .. والله أعلم .
# ثانيا:
تفصيل وبيان للأحاديث الثلاثة السابقة:
- ذكر الإمام
المنذري في الترغيب والترهيب حديثا جاء فيه مَنْ أَتَى
عَرَّافاً فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَصَدَّقَهُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ
أَرْبَعِينَ يَوْمَاً) .. ثم قال بعده .. رواه مسلم ..!!
- ووجدت تعليق الشيخ الألباني عليه فقال رحمه الله:
- "وليس
في مسلم "فصدقه"، وفيه "ليلة" بدل "يوماً". وإنما
هو في "مسند أحمد" صحيح الترغيب ج3 ص171 .
#- قلت (خالد صاحب الرسالة)
.. تعليقا على ما سبق:
- من خلال
التنبيه الذي أشار إليه الشيخ الألباني قد جعلني أنتبه لهذا الأمر .. ولذلك رجعت
لصحيح مسلم ورجعت إلى مسند أحمد .. وجدت أن هذه الرواية التي ذكرها الإمام المنذري
والمشهورة في كثير من كتب أهل العلم .. هي رواية أفهم مما سبق بيانه أنه قد تم
جمعها ودمجها من الروايتين معا .. أي من رواية أحمد ومسلم ..
- ولكن في
الحقيقة لا يوجد رواية بهذا اللفظ فعلا الذي ذكره الإمام المنذري ..!!
#-
وإذا كان البعض قد جمع رواية أحمد ورواية مسلم .. لأن السند واحد .. فأخرج السياق في شكل واحد
.. إلا أن هذا لا يصح .. لاختلاف المعنى المترتب على كلا منهما .. كيف ذلك ؟
1-
فرواية الإمام مسلم تقول: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا
فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)
رواه مسلم.
- ويفهم منها
.. أن مجرد الذهاب للعراف سواء صدقت أم لم تصدق فلم تقبل لك ثواب صلاة أربعين ليلة
..
- ولا يوجد
في الحديث لفظ (فصدقه) ..
2-
ورواية الإمام أحمد تقول: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا
فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا) رواه
أحمد ..
- ويفهم منها
أن من ذهب للعراف فصدقه فلا تقبل له صلاة أربعين يوما .. ولكن من لم يصدقه فلا حرج
عليه ..!!
- ويوجد هنا في الحديث لفظ (فصدقه) ولم يظهر لفظ (فسأله) .. كما أنه قال (أربعين يوما) .. وفي رواية مسلم قال (أربعين ليلة) ..
-
علما بأنني لم أجد أحد من محققي الأحاديث قال أن هذه الزيادة منكرة في رواية أحمد ..
أي زيادة لفظ (مصدقا) ..!!
#- ولذلك تأمل
الفرق بين فقه الحديثين ..
1-
فحديث مسلم يعتبر العقوبة لمن ذهب للعراف عموما سواء صدق أم لم يصدق ..
2-
وحديث أحمد ربط هذه العقوبة بالتصديق ..
#- وهنا
نصبح في حيرة .. !!
- فهل نأخذ
بحكم الذهاب العام سواء صدقنا أم لم نصدق العراف .. أم نأخذ بالحكم الخاص الذي ربط
الذهاب بالتصديق ؟!!
-
الذي عليه بعض العلماء ممن قرأت لهم هو .. أن رواية مسلم عقوبتها مرتبطة بمن يصدق وإن
لم يظهر فيها ذلك وإنما ظهر
ذلك في رواية الإمام أحمد .. لأن هناك من يذهب للعراف مستهزأ به ومتحديا له
أو ناصحا له أو كما يحدث في زماننا يأتون صفحات الكهان والعرافين تسلية وفضولا وليس
تصديقا له .. فكيف حينئذ تلحقه العقوبة المذكورة في الحديث ..!!
- وحتى هذه المسألة السابقة فلا إشكال فيها .. لأن بمجموع الروايتين يتضح أن العقوبة
مخصصة ومرتبطة بتصديق العراف.. ولكن الإشكال فيما سيأتي ..
#- ظهور تعارض بين حديثين في الحكم لنفس المسألة :
1-
جاء في رواية الحديث (مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ
كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ
فِيمَا يَقُولُ .. فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رواه الحاكم وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ .. ووافقه
الذهبي ..
2-
وفي الرواية التي ظهرت معنا من رواية أحمد التي جاء فيها : (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ .. لَمْ تُقْبَلْ لَهُ
صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا) رواه أحمد ..
-
وهنا سؤال: أي الحكمين هو الصحيح .. حيث يظهر من وراء ذلك تعارض ظاهر .. بظهور حكمين
لنفس المسألة:
- هل الذي
يصدق العراف لا تقبل منه صلاة أربعين ليلة .. ؟!!
- أم الذي
يصدق العراف يكون قد كفر بما أنزل على محمد .. ؟!!
- فأي حكم هو
الصحيح حينئذ ؟!! لأنه لا يصح الحكمين معا .. فالأول حكم بالعصيان .. والثاني حكم
بالخروج من الدين ..!!
#- قلت (خالد صاحب الرسالة):
1-
قد يكون المقصد من حديث (فصدقه) رواه
أحمد .. أي أن الذي ذهب للعراف صدق ما قاله العراف له فيما سأله عنه .
2-
ويكون المقصد من حديث (فصدقه) رواه
الحاكم .. أي مصدقا له بأنه يعلم الغيب في العموم لأي شخص ولأي حدث يكون في الدنيا
.. ودليل ذلك أن لفظ الكاهن في الحديث هو الذي من أحواله أنه يزعم معرفة الأخبار
العامة التي ستحدث ..
-
فالحديث الأول الخاص بعدم قبول صلاة أربعين ليلة يتعلق بما يصدقه الشخص
من العراف فيما سأله من مسائل تتعلق به شخصيا .. وليس بالضرورة أن يقول عنه هذا
الشخص أنه يعلم الغيب الذي يعلمه الله ..
-
ولكن الحديث الثاني الذي حكمه الكفر بما أنزل على محمد فهو يتعلق بمن يعتقد
في عراف أو كاهن بأن له علم الغيب مطلقا كما هو لله .. وهذا يكون موجود غالبا في
بعض الدول التي غاب عنها الإيمان ولم يعد فيها أهل توجيه وإرشاد .
- هذا اجتهادي والله أعلم ..
#- ملاحظة:
-
وقال بعض العلماء في الأحاديث السابقة .. أنهما حكمين لنفس المسألة .. وهذا شيء لا أجده معقول .. لأن الحكم الأول
يجعلك عاصيا لله فقط ويتطلب توبة واستغفار .. ولكن الحكم الثاني يخرجك من الدين ويتطلب
تجديد الإيمان مع التوبة والاستغفار ..!! فكيف يمكن الجمع بين هذين الحكمين هكذا
في مسألة واحد فيهما هذا التناقض حينئذ ..؟!!
- ولذلك اجتهدت في فهم الأحاديث والجمع بينها
.. فإن كنت قد وفقت فيه فمن الله .. وإن اخطأت فمن نفسي .. والله أعلم .
#-
ملحوظة هامة جدا:
- سبق الكلام على هذه الأحاديث السابقة بالتفصيل في
الفصل الرابع والعشرون عند السؤال رقم (131) ..
********************************************* ..:: س137: هل يلزم إعادة صلوات الأربعون
ليلة التي منع من قبول ثوابها ؟ ::..
- حينما تقرأ حديث (مَن أتَى
عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عن شيءٍ، لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً)
صحيح مسلم ..
- قد يخطر ببالك سؤال فتقول: هل بهذا الحديث يكون على المسلم إعادة صلاة الأربعين ليلة
؟
#- قلت (خالد صاحب الرسالة):
- هذا السؤال لو كنت تظن بأن عدم القبول هو
أن الله رفض صلاتك كأنك لم تصلي .. وهذا كلام باطل وسبق أن أوضحت لك سبب بطلان ذلك وشرحت
لك مفهوم القبول في أسئلة سابقة مثل السؤال رقم (134) فارجع إليه ..
- فإذا كان المفهوم خلاف ما كنت تظن .. فلماذا يعيد الشخص صلواته طالما قام
تأديتها فعلا ؟!!
- ولكنها هي مقبولة الطاعة وتبرأ ذمة من فعلها
.. وبالتالي لا إعادة لهذه الصلوات ..
- والذي عليه علماء المسلمين .. هو أن هذه الصلوات لا يتم إعادتها .. لأنه
بالفعل قد برئت ذمتك منها .. أما عن أجر ثوابها وإن كان فاتك منها ثواب أربعين
ليلة .. فالله يخلف عليك بمزيد من فضله لمن تاب وآمن وعمل صالحا واستمر على ذلك ..
#- وممن قالوا بعدم إعادة الصلوات:
1- قال الإمام النووي رحمه الله: العلماء متفقون على أنه لا يلزم على من أتى العراف إعادة
صلاة أربعين ليلة. (راجع شرح النووي على صحيح مسلم ج14 ص277).
2- وقال الإمام القرطبي رحمه الله: لكنه إذا فعلها على شروطها
الخاصة بها فقد برئت ذمّته من المطالبة بالصلاة . (راجع المفهم في شرح صحيح مسلم ج5 ص636)
********************* ..:: س138: لماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم بتكفير من يصدق
العراف والكاهن ؟ وهل مصدق العراف هو مكذب للقرآن ؟ ::..
- قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَتى عَرَّافاً أَوْ كاهِناً فَصدَّقَهُ بِما يقولُ؛ فقد
كَفَر بِما أُنْزِلَ على مُحمَّدٍ) رواه الحاكم .. وقال: هذا حديث صحيح على
شرطهما جميعا من حديث بن سيرين ولم يخرجاه ..
#-
أولا: يرى بعض أهل العلم أن علة وسبب تكفير
المصدق للعراف .. هو أنه بتصديقه للعراف أصبح مكذبا للقرآن ..
لأن الله له علم الغيب وحده .. حيث يقول: (إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) فاطر38..، ويقول
تعالى: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) النمل65 ..
#- قلت (خالد صاحب
الرسالة):
- من وجهة نظري .. لا يصح أن يتم اتهام شخص مسلم بأنه مكذب
للقرآن دون أن نعرف مفهومه لمعنى تصديق العراف .. حيث أن العوام يذهبون للعراف
بحثا عن معرفة شيئا ما ليس اعتقادا فيه بأنه نبي ولا بأنه مثل الله يعرف الغيب ..
حتى يتم اتهامه بأنه مكذب للقرآن .. فهذا
اتهام باطل حينئذ .. ولذلك كثير من العلماء قال بأن الكفر المذكور في الحديث لا
يخرج من الملة وإنما على سبيل المشابهة لمعتقدات الكفار في الجاهلية .. أي كفر
نعمة وليس كفر جحود ..
- وعلى افتراض أن هذا الكفر كما قال بعض العلماء أنه كفر فعلي يخرج من
الدين .. فأيضا يكون اتهام الشخص بأن علة التكفير هي تكذيبه للقرآن هو رأي خطأ
وذلك لأسباب منها:
1- لأن علة التكفير قد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم .. وهذه العلة هي التصديق لما قاله العراف ..
وليس التكذيب لما قاله القرآن ..!!
2- وهنا نسأل ما هو مفهوم تصديق الكاهن ؟
- تصديق الكاهن هو أن يتم جعل كلامه عن الغيب هو كلام
صادق ويقين لا يحتمل الشك في كل ما يخبر به كأنه علم يقين وسيحدث بكل تأكيد ..
فصدقه كما يتم تصديق النبي في كل ما يقول به من أخبار الغيب .. أو يكون ظن طالب
العرافة في نفسه أن العراف يعرف الغيب الذي يعرفه الله وهو الغيب المطلق ..
- فهل يوجد مسلم يقول بهذا الكلام السابق ؟!!
لا أعتقد .. ولا أظن أنه يمكن لمسلم عاقل أن يقول بهذا الكلام عن عراف أو
كاهن أو منجم .. ولو كان فعلا هناك من يقول بذلك مؤمنا به ومعتقدا فيه فحينئذ يكون
قد دخل في دائرة الكفر وتكذيب القرآن ويتم توجيهه ومناقشته لتصحيح عقيدته لما
اختلط عليه من الأمر ..!!
- إذن فلماذا نجعل اليأس يسري في نفوس الناس
الذي أخطأوا بالذهاب للعراف وقالوا مثل أنه صدق في كذا قد قاله .. ونتهمهم بأنهم
كفروا .. لماذا هذه الفتاوى المضللة للحقائق والتي بخلاف ما قاله النبي صلى الله
عليه وسلم ..!!
3- وليس لمجرد ان شخص قال أن العراف صدق
في كذا فهو يكون كفر .. لأنه لم يقل أنه الصادق في معرفته للغيب .. وتصديق
حدوث شيء قد يحدث في الغيب .. لا شيء فيه طالما بدلالة تشير إلى ذلك .. مثل من يرى
مرائي مستقبليه فيها توجيه له كما كان في رؤيا ملك مصر التي فسرها له يوسف عليه
السلام ..
- فهل نقول حينئذ أن القرآن يكذب بعضه
البعض .. فمرة يقول أن الله يعلم الغيب وحده .. ومرة يقول أن ملك مصر علم شيئا من
الغيب في رؤياه ؟!! فهل هذا كلام يعقل ؟!! بكل تأكيد .. لا .. لأن الله قد يكشف
شيئا من غيبه لمن يشاء لحكمة هو يعلمها .. وكل هذا من الغيب النسبي وليس من الغيب
المطلق .
- وأيضا نجد بعض الناس قد تعرف شيئا من
الغيب المستقبلي من باب الإلهام .. ولا نقول عنهم أنهم بذلك مكذبين لآيات القرآن
التي اختص الله فيها علم الغيب لنفسه .. لأن الله يتكلم في غالب آياته عن العلم
الذاتي المحيط بالغيب الذي اختص به نفسه في كل الأزمنة والأمكنة.. وهذا غيب يفوق
معرفة الإنس والجن والملائكة ..!!
#-
وخلاصة القول:
- من لم يصدق العراف في كل كلامه أو
كان متشككا في كلامه أو يعلم أنه منه صدق وكذب أو أنه يرجم الغيب بظنون يظنها .. فهذا لا يكفر ولا يتم اتهامه بأنه مكذب
للقرآن حتى لو قال أن العراف صدق في قولا قد قاله .. لأنه لم يقل أن العراف صادق
في كل شيء ..
- ولكن هذا لا يسقط عن طالب العرافة أن له عقوبة أخرى وهي حرمانه من ثواب صلاة
أربعين ليلة ..
#- وعموما يقول تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ
عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ
ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الأنعام54.
- وكل من يفعل ما فيه معصية لله .. ويتوب
ويصلح ما أخطأ فيه .. فإن الله غفور رحيم ..
- والله أعلم .
************************ ..:: س139: لماذا يُكفَّر من يذهب للعراف لو صدَّقه في حين لا يُكفَّر
من يغتصب النساء ويقتل العباد ويفسد في الأرض ؟ ::..
- قال رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَتى عَرَّافاً أَوْ
كاهِناً فَصدَّقَهُ بِما يقولُ؛ فقد كَفَر بِما أُنْزِلَ على مُحمَّدٍ)
رواه الحاكم .. وقال: هذا حديث صحيح ..، ورواه أحمد
وقال الأرنؤوط: حديث حسن .
-
استشكل على البعض هذا الحديث وقال: كيف يكون من يذهب للعراف وصدقه يكون كافر ..
في حين أن الذي يقتل ويغتصب ويسرق وينهب لا يتم وصفه بالكفر حتى لو تكرر الفعل منه
مائة مرة كالذي قتل مائة مرة وقبل الله توبته ؟!!
#- قلت (خالد صاحب الموضوع):
1- قد يتم تكفير من
يفعل أفعالا محرمة مهما كانت .. في حالة أنه استباحها .. أي قال عنها أنها
حلال وليست حرام في حين أن القرآن والنبي قالوا حرام وأجمع عليها العلماء بتأكيد
ذلك .. فهذا يكون كافرا بالقرآن ومكذبا له حينئذ .. ولكن طالما هو يقر معترفا أن
ما يفعله هو شر ومحرم فعله ويعاقبه عليه الله .. فهو غير مستبيح ولا يتم تكفيره ..
2-
أما عن طالب العرافة الذي تم تكفيره .. لو تأملت قوله (فصدقه)
.. أي سمع كلام العراف وآمن به معتقدا فيه أنه يعلم الغيب يقينا وأن ما يقوله هو الحق
.. في حين أن النبي يقول أنه قد يقول حقا مخلوط بمائة كذبة ..!! فهذا يكون حينئذ
قد كفر بالقرآن ولم يصدق النبي في قوله .. أي استباح باعتقاده بتصديق العراف خلاف
ما أمره الله ورسوله أن يعتقده في هذا العراف بأنه مخلوط كلامه بالكذب .. فكيف
حينئذ لا يكون قد دخل إلى الكفر حيث لم يصدق النبي وكفر بالقرآن حينما نسب للعراف
علم اليقين في معرفة الغيب ؟!!
-
لأن من يتكلم في الغيب كأنه يقين أي كأنه علم يقين لا يحتمل الشك .. إما أن يكون رسول أو نبي .. أو شخص لا يزعم
أنه نبي ولا رسول ولكن ينسب لنسبه القدرة على معرفة الغيب كيفما شاء ووقتما شاء
بعلم يقين .. فيكون بذلك قد نسب لنفسه صفة هي لله وهي صفة العلم بالغيب .. وفي
كلتا الحالتين هو يكون كفر بالقرآن .. لأنه لا نبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه
خاتم النبيين بنص القرآن .. ولا يوجد شريك لله في صفة العلم بالغيب على وجه اليقين
والتفصيل ..!!
#-
ومفهوم التكفير عند مفسري الحديث على رأيين :
-
الرأي الأول: إطلاق الكفر في هذا الحديث عند غالب العلماء على سبيل التغليظ والتشديد والوعيد
الشديد ، ولا يخرج صاحب هذا الفعل عن الملة .. طالما لم يساوي معرفة العراف بعلم
الله ..
-
ويكون معنى الكفر في كلامهم حينئذ .. هو أن من يفعل ذلك يكون قد أدخل
نفسه في حجاب الغفلة عن الإيمان الواجب به الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم
.. وتشبه بأفعال أهل الكفر ..
#-
قلت (خالد صاحب الرسالة): وهذا الرأي يكون صوابا في حالة كان طالب
العرافة يغفل عن حكم الدين أو جاهل لا يفهم معنى كونه مصدقا للعراف بانه يكون بذلك
مكذبا لكلام النبي وكلام الله .. ولكن لو كان يعلم أن معنى التصديق يكون فيه تكذيب
لكلام النبي وتكذيب للقرآن .. فحينئذ فعلا يكون قد أعلن الكفر صراحة نتيجة هذا
التكذيب .. ونسأل الله له التوبة ..
- الرأي الثاني: وبعض العلماء قال بأنه قد يكون مقصود الكفر في الحديث هو
الخروج من الدين فعلا .. في حالة أنه كان مصدقا للعراف ومؤمنا به أنه يعلم الغيب يقينا وليس ظنا .. لأنه يكون حينئذ نسب
للعراف صفة من صفات الله وهي العلم بالغيب ..
#- قلت (خالد صاحب الرسالة):
- لا يتم
إخراج أحد من الدين إلا بعد سؤاله واستبيان حاله ..
-
ولذلك يتم سؤال من يذهب للعراف .. فيقال له: هل تعتقد بأن العراف يعرف الغيب
مثل معرفة الله للغيب .. أو هل تعتقد أن العراف نبيا يوحى إليه ؟ فإن قال: نعم ..
فقد كفر حينئذ بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم حينئذ ويتم استتابته وتوجيهه
للحق ..
-
وإن قال: بل هو مجرد شخص يقول أقوالا قد يصدق فيها وقد لا يصدق
فيها لأن الله هو من يعلم الغيب .. فهذا حينئذ ليس مصدقا للعراف ولا يتم تكفيره ..
وإن كان له عقاب حرمانه من ثواب صلاة أربعين ليلة ..
- والله أعلم .
**********************
- وبهذا يكون ختام الكلام على
الإشكاليات التي قد تظهر من روايات الاحاديث التي تتعلق بالعرافة .. والحمد لله رب العالمين .. وننتقل بعدها إلى معرفة الحكمة في أحكام العرافة والكهانة .
جزاك الله عنا خير الجزاء استاذنا الكريم
ردحذفماشاء الله لاقوة إلا بالله
ردحذفمدد ياالله مدد
يارب ياعالم الحال إليك وجهت الآمال=فأمنن علينا بالاقبال وكن لنا وأصلح الحال
جزاك الله كل خير استاذنا الفاضل
ردحذفوأحاطك بنوره وحفظك بحفظه
امين يارب العالمين
جزاك الله عنا كل خير أستاذنا الفاضل
ردحذفالله يزيدك من فضله وكرمه ويجعلك منارة يستنير به كل الناس
اللهم اغفر لأستاذنا خالد ولأهل بيته وكل محبيه وزده نور علي نور اللهم آمين يارب العالمين
...................................
اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وسلم
أستاذنا الحبيب خالد رمضان كريم عليكم و على أهلكم و على الشعب المصري و على الأمة الإسلامية
ردحذفو رمضان كريم على زوار و أعضاء و مشرفي المدونة
*****
نكمل القصة
*****
96-///
و هكذا خذلتني أرواح " الحاجة صفصف". خذلتني كما خذلني الطب و الأطباء.
و لم أعد مرة أخرى إلى أعتابها. و لكني عدت لأرتمي على أعتاب أخرى جديدة.
من . . . ؟
كيف . . . ؟
أين ... ؟
هاكم حكاية أخرى.
*****
من . . . ؟
قسيس اسمه أبونا " ف ".
أين . . . ؟
كنيسة " مار جرجس".
كيف . . . ؟
هذه هي الحكاية.
*****
كان القطار يطوي المسافة من محطة سراي القبة متوجها إلى حلوان في صباح ذلك اليوم البارد من شتاء 1990، و قد أخذت المشاهد تتسارع و تتسابق و تطوى أمام عيني التائهتين من خلال زجاج النافذة المغلق، بينما كنت أسند رأسي الثقيل الذي يضج بمعزوفة الألم في إعياء و تخاذل شديدين إلى زجاج النافذة.
و كان علي أن أغادر القطار في محطة " ما جرجس "، لألتقي بأحد أصدقاء العائلة المسيحيين من سكان حلوان، و الذي كان يربط بين عائلته و عائلتي علاقة جيرة و صداقة دامت لعشرات السنين، و ذلك للتبرك بأحد قساوسة الكنيسة المعلقة.
97-///
ردحذفو إن نسيت فلن أنسى ذلك اليوم و كأنه كان بالأمس، فقد كنت في ذلك الوقت أجرب " صنفا " جديدا من الأدوية، و كأنما أجرب صنفا جديدا من أصناف البقالة التي تباع في السوبر ماركت، حيث أصر الطبيب الذي كان يعالجني على تعاطيه لمدة ثلاثة أشهر كاملة رغم عدم جدواه مطلقا في تخفيف حدة الصراع الذي كان يعصف برأسي، و رغم شكواي الدائمة من تلك الحالة من عدم الاتزان و تغييب الوعي التي كنت أصاب بها.
و لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أجرب فيها أمثال هذا الدواء، و لكنها كانت المرة الأولى التي " أكابر " فيها و أغادر منزلي و كأنني مثل " مخاليق الله "، بل و أقود سيارتي في الشوارع المزدحمة المكتظة بالمارة، رغم ذلك الغلاف السميك الذي كان يغلف وعيي، و رغم اهتزاز المرئيات أمام عيني.
و لم " أكابر " في ذلك اليوم طويلا فما هي إلا ناصيتين أو ثلاث، حتى أنني أدركت أنني لا أقود سيارة، و إنما أقود سلاحا قاتلا قد يطوي تحت عجلاته جسدا آدميا، أو يعانق في حميمية سيارة أخرى في الطريق.
و ركنت سيارتي على الفور و استقليت سيارة الأجرة و توجهت إلى محطة المترو الأنفاق بسبراي القبة، و استقليت بعدها و للمرة الأولى في حياتي ذلك القطار الذي يصل بين المرج و حلوان، وصلت وجهتي و أنا أقرب إلى السكرى أو المغيبة، و وجدت في استقبالي صديق العائلة و لا أعرف ماذا قلت له أو قال لي.
و عبرت الشارع معه كالتائهة أو المنقادة و نحن نتجه إلى تلك الكنيسة الأثرية بمبانيها الضخمة التي التحمت مع الكنيسة المعلقة، بينما غرقت في بحر من التهيؤات و أحلام اليقظة، حيث تخيلت أنني سأغادر الكنيسة بع قليل و قد خلقت خلقا جديدا، و عدت كما كنت من قبل ما يقرب من العشر سنوات، و حيث انتابني ما يشبه الإيمان المطلق بأن الله سبحانه و تعالى بواسع رحمته و علمه، سيرسل روح السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام صاحب المعجزات؛ لتحل في جسد الأب " ف " ذلك القس الذي جئت من أجله، و الذي طالما سمعت عن قدراته و بركاته؛ لينتشلني من تلك الآلام التي تعربد في رأسي، و من سموم تلك الأدوية التي تعصف باتزاني و وعيي.
و رغم أنني كنت قد سمعت الكثير عن كرامات ذلك القس، إلا أن ما قيل لي من أن الزحام الشديد للمترددين عليه قد يمنعني من مقابلته إلا بعد عدة أيام؛ جعلني أحجم عن خوض تلك التجربة.
و لكن حدث أن اتصل بي صديق العائلة الذي أشرت إليه عندما علم من أمي أنني أمر بواحدة من تلك المراحل المرضية الصعبة التي أصبحت جزءا من حياتي، و التي كانت تلقى بي إلى الفراش أحيانا لعدة أسابيع، و طلب مني خوض تلك التجربة التي لن تضر إن لم تنفع.
و أمام عجزي عن قهر ذلك الجني الذي يعربد في رأسي، و أمام عجز الطب و الأطباء عن الأخذ بيدي، و أمام رغبتي الملحة الجامحة في الحصول على الشفاء وجدتني أنصاع له في تهلل و اندفاع، و كأنما أنا غريق طال صراعه مع الأمواج العاتية، و الذي ما أن كادت تخور قواه حتى برزت له من طيات الأمواج الهادرة مجرد قشة صغيرة بعثت فيه الأمل بالنجاة.
و هكذا استجمعت قواي الخائرة، و جرجرت جسدي المنهك و وعيي المغيب بسموم الأدوية و آلام الصداع، و ذهبت إليه.
*****
كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها هذه الكنيسة عن قرب فطالما شاهدتها من نافذة القطار و أنا في طريقي من حلوان إلى القاهرة أو بالعكس قبل زواجي، و لكن الظروف لم تيسر لي فرصة زيارتها أو التعرف على معالمها.
و أخذني صديق العائلة في جولة سريعة مبتورة داخلها، فقد كنت في لهفة لمقابلة الأب " ف " ، بنفس القدر الذي كنت أتلهف به للعودة إلى بيتي و حجرتي و فراشي؛ كي يأخذني النوم في أحضانه.
98-///
ردحذفو ما أن خرجنا من باب الكنيسة، حتى توجه بي مرافقي يمينا إلى ممر حجري ضيق، يحده من الجانبين سوران حجريان شاهقان يخيفان ما وراءهما، و ما إن انحرف بنا ذلك الممر إلى جهة اليسار حتى رأيت باب خشبيا منخفضا أفضى بنا بعد أن اجتزناه إلى فناء داخلي ذي أرضية حجرية، و قد غص بأعداد غفيرة من الناس على اختلاف مستوياتهم من الرجال و النساء و الأطفال، حيث اصطفوا فيما يشبه الطابور انتظارا لمقابلة الأب " ف " الذي كان يقوم باستقبال مريديه في تلك الحجرة الوحيدة التي كانت تقع في منتصف الفناء.
و تقدم مرافقي من باب تلك الحجرة التي كان بابها منفرجا، و انحنى على أذن رجل مسن كان يسد الفراغ الباقي من الباب بجسده، و همس شيئا في أذنه؛ قام على إثره الرجل بالنظر إلي في سماحة في نفس الوقت الذي خرجت فيه من الحجرة سيدة شابة تحمل طفلا على ذراعها، حيث أعقب تلك النظرة بإشارة من يده مؤذنا لي بولوج الحجرة حيث كان هناك القس العجوز بملابسه السوداء و لحيته الكثيفة التي غزاها الشيب، و وجهه الوقور الذي تنقل لك ملامحه حالة تلقائية من الشعور بالسلام و ابتسامته الهادئة الرزينة.
كان يقف في منتصف الحجرة تقريبا، حيث كانت تفصلني عنه منضدة صغيرة منخفضة من الخشب، بينما كان يقف وراءه مساعده الشاب الذي كان في نحو الثلاثين من عمره.
و شرحت للقس العجوز بإيجاز أوجه معاناتي، و ارتسمت في عينيه نظرة تفهم و تعاطف، بينما اتسعت ابتسامته الهادئة و هو يتناول من يد مساعده زجاجة الزيت المقدس ليأخذ نقطة منه على أصبعه، الذي رفعه ليمس به جبهتي، و ما أن مد يده بالزجاجة ليعيدها إلى مساعده حتى تناول بسرعة خاطفة كوبا مليئا بالماء كان موضوعا أمامه، و ما كدت أتابع يده و هي ترفع الكوب إلى شفتيه حيث تناول منها رشفة واحدة كبيرة و وجدته يميل علي فجأة رغم المنضدة التي تفصلنا و هو يطلق من فمه رذاذا من الماء الذي ملأ به فمه، ليغطي وجهي و يتخلل شعري و يتناثر على ثوبي.
و أخذتني المفاجأة التي جعلتني أتراجع إلى الوراء في فزع، بينما أسرعت أزيل بأصابعي قطرات الماء التي سالت على وجهي و استقرت على عيني و أهدابي، في الوقت الذي تناهى إلى سمعي و لأول مرة صوت الأب " ف " الرتيب الشبيه بالتراتيل، و هو يدعو لي بالشفاء بعد أن حييته مودعة.
و التفت إلى مرافقي فور أن غادرنا الحجرة الصغيرة، و هو يتساءل في تفاؤل عما إذا كانت حدة الصداع قد خفت قليلا، حيث أجبته بالنفي، و أنا مازلت غارقة في ذهولي، لذلك " الدش " الذي أخذته للتو بملابسي، و الذي لم يكن بالحسبان، بينما اخترت بقعة مشمسة في الفناء الحجري، وقفت فيها لعدة دقائق، و أنا أجفف وجهي و رقبتي.
99-///
ردحذفو يبدو أن ذلك "الحمام" الذي أخذته على يد الأب " ف " كان له فعل السحر في إيقاظ وعيي و تنبيهي إلى ما يدور خارج حجرته، و إلى طبيعة ذلك الجمع الذي احتشد في ذلك الفناء، فقد أدركت من خلال بعض العبارات التي تناهت إلى سمعي أن معظمهم قد قدموا من بعض المدن و القرى البعيدة سواء من الدلتا أو الصعيد، بل و أدركت أن البعض منهم لم يأت بصورة فردية، و إنما جاءوا في مجموعات، حيث لفت نظري مجموعة مكونة من نحو عشرة أفراد من المسلمين و المسيحيين قد أتوا جميعا من مدينة الإسكندرية في "ميكروباص " واحد، و كان من بينهم شاب في مقتبل العمر حبسه مرض الشلل في مقعده المتحرك، و كذلك طفل في نحو العاشرة يعاني من التخلف العقلي الشديد و الذي بدا واضحا من تكوين رأسه و ملامحه و اهتزازات جسده المتشنج الصغير . . . و قد سال اللعاب من جوانب فمه.
و أدركت أن مشكلاتهم و معاناتهم على اختلاف أنماطها قد صهرتهم جميعا في بوتقة واحدة و هدف واحد، رغم اختلاف دياناتهم و مشاربهم، حيث أخذ البعض في سرد ما سمعوه عن كرامات القس العجوز، و كأنها حقائق مؤكدة عايشوهم بأنفسهم.
و علمت أن هناك من ينظم الرحلات للقادمين من خارج القاهرة ممن قهرهم المرض و العجز عن مواجهة و حل مشكلاتهم، و كأنهم مجموعة من الحجيج، يستوي في ذلك الوجهاء و البسطاء، و المسلمون و المسيحيون، حملة الدكتوراه من المساكين أمثالي و الذين لا يعرفون الألف من " كوز الذرة " و كيف أنهم تسلحوا جميعا بسلاح الإيمان بالغيبيات و المعجزات، لمواجهة ذلك العجز و القهر الذي يمارس سطوته على مقدراتهم و حياتهم و صحتهم.
و أصر مرافقي، صديق العائلة في ذلك اليوم على أن يقلني بسيارته حتى منزلي في مصر الجديدة بعد أن فشلت في ارتداء قناع المرأة الخارقة، و عندما لاحظ مدى ما أعانيه من تعب و إرهاق و عدم اتزان، حيث اتصلت بزوج ابنتي تليفونيا و طلبت منه إحضار سيارتي من المكان الذي تركتها فيه في الصباح.
و آويت فورا دون أن أستبدل ملابسي إلى الفراش، رغم أن الساعة لم تكن قد جاوزت الثانية عشرة ظهرا إلا بقليل، حيث كان النوم أرحم من الماء و الزيت المقدس الذي باركني به الأب " ف "، و حيث أخذت " مزيكة حسب الله " التي تدوي في رأسي في الخفوت تدريجيا إلى أن سرقني النوم منها تماما.
و استيقظت من النوم بعد ما يقرب من الثلاث ساعات. و استيقظ معي الجن الذي يسكن في رأسي بمجرد مغادرتي الفراش. و بدأت معزوفة الألم تعربد في رأسي. و استعدت في ذاكرتي أحداث الصباح. و ابتسمت في مرارة، و أنا أتذكر الماء و الزيت المقدس. و اتسعت ابتسامتي المرة عندما أيقنت أن أبواب السماء ما زالت مغلقة " بالضبة و المفتاح " أمام ابتهالاتي و دعائي، و أن الأب " ف " و روح سيدنا عيسى عليه السلام قد خذلاني و تخليا عني.
و مع ذلك اغتسلت و توضأت و صليت و دعوت.
و ظل الجني الذي يسكن في رأسي " يتعفرت " و " يتنطط " و "يتشقلب ".
إلى أن كان ذلك اليوم.
100-///
ردحذف**** بعنوان "وخذلني ملك الجان! " ****
عاد الصداع " يجرجرني " مرة أخرى إلى أبواب أطباء الأمراض النفسية.
و عدت " أبلبع " الجبوب المهدئة " وأبلبع" المسكنات.
إلى أن دخلت حياتي تلك الفتاة التي أخذتني إليه.
إلى الأب " ب ".
*****
كانت تلك الفتاة شابة في نحو الخامسة و العشرين من عمرها، و كانت قد انتهت من دراستها الجامعية عندما بدأت تتردد على منزلي، حيث كان يربطنا و أسرتها علاقة قديمة.
و بدأت أجد في ترددها المستمر نوعا من الأنس خاصة بعد سفر زوجي و انشغال أبنائي بحياتهم الخاصة.
و حدث أن أجريت عملية جراحية استدعت بقائي في الفراش لفترة، حيث أصرت تلك الفتاة على البقاء معي لرعايتي بعد عودتي للمنزل، و حيث أصبحت بعد ذلك تفضل المبيت في بيتي عن المبيت لدى أسرتها.
و كنت أعلم منذ مدة طويلة أنها تعاني من بعض الهلاوس و الخيالات، و اصطحبتها أكثر من مرة إلى أطباء الأمراض النفسية دون جدوى، و آمنت الشابة بفكرة أن هناك " جني " بدأ في مطاردتها في أحلامها، ثم أصبح حقيقة لا ريب فيها.
و أصبح بيتي بالنسبة لها هو المكان الوحيد الذي لا يطاردها فيه الجني الذي كانت تدعي أنه سكن جسدها و أنه قد أحال حياتها جحيما، فأينما تضع جنبها ليلا كان هذا الجني يقتحم أحلامها بصورة مزعجة و حادة، و أصبحت مع الوقت غير قادرة على الفصل بين الحلم و الواقع، فهي ترى الجني جالسا على طرف الفراش بصورته المرعبة و هو يحملق فيها، و تقفز من الفراش صارخة في رعب تستنجد بمن حولها و يطمئنها الجميع أنه لم يكن إلا مجرد كابوس، و تقسم بأغلظ الأيمان أنه كان حقيقة لا ريب فيها. و تراه مرة أخرى و قد تحول إلى فأر كبير تستيقظ على أنفاسه و هو يجثم فوق وجهها، ثم تعود مرة أخرى لتراه قزما يحكم قبضته على رقبتها أو يكتم أنفاسها أو يكبل أقدامها بسلاسل حديدية، و تطور الأمر إلى أن أصبحت بعد كل موقف من تلك المواقف تصاب ببعض الأعراض المرضية، فهي تفقد النطق لعدة أيام تارة، و تصاب بالشلل الكلي و تفقد القدرة على المشي لعدة أيام تارة أخرى.
101-///
ردحذفو بدأت رحلة معاناتها و معاناة أسرتها البسيطة رقيقة الحال بين الأطباء النفسيين و الدجالين و المشعوذين، و فشلت كل المحاولات في تحريرها من قبضة المرض النفسي الذي كان يدعيه البعض، أو من قبضة الجني الذي يسكن جسدها كما كان يدعيه البعض الآخر.
و كان بيتي المكان الذي لا يصل فيه إليها الجني الذي يلازمها، و أصبحت تقيم معي إقامة شبه دائمة، و لا تفارقني إلا إلى المدرسة التي أصبحت تعمل بها لتعود إلي بعد الانتهاء منها.
و أقنعتني الشواهد و أحاديثي معها أنها تعاني من بعض الأمراض النفسية رغم فشل الأطباء في علاجها، و قاومت كثيرا إيمانها بأن الجني يتلبس جسدها، و لكني في نفس الوقت تعاطفت معها، بل و جاريتها أحيانا؛ فقد كانت معاناتي من قهر آلام الصداع لا تدعني أرى بابا للشفاء إلا طرقته حتى و لو كان الباب شركا أو سرابا، و ما كانت أكثر الشراك، و ما كانت أكثر الآمال و أحلام الشفاء سرابا.
لاحظت لعدة أيام أن فتاتنا قد بدأت تتأخر في العودة إلى المنزل مساء، ثم بدأت ألاحظ أنها تبكر في الخروج صباحا بلا أسباب واضحة، ثم بدأت تقضي بعض الليالي خارج بيتي بدعوى أنها تبيت لدى أسرتها.
و اكتشفت بعد عدة أسابيع أنها كانت تراوغني طوال الوقت حيث أخبرتني في لحظة من لحظات صفائها أنها تتردد على بيت الأب " ب "، و هو رجل مسيحي مسن قام بإعداد شقة يملكها في شبرا لتكون مقرا له يستقبل فيه المرضى و الممسوسين و أصحاب المشكلات على اختلاف أنواعها كالعقم و الخلافات الزوجية و ما إلى ذلك، و أصبح يقيم فيها قداسا في الصباح الباكر يوميا، و أنه قد أكد لها أنها ملبوسة و أن طرد الجني الذي يتلبسها سوف يستغرق الكثير من الوقت، و أن عليها أن تصبر و أن تستمر في التردد على مقره حتى يأذن الله بالشفاء.
و مع طول فترة ترددها عليه تكون لديها اليقين بأنه منقذها، فبدأت كلما ضاقت بها السبل تتصل به في أي ساعة من ساعات الليل و النهار، و تستنجد بكراماته التي كانت تعتقد أنها بلا حدود رغم تأكدها من هذه الكرامات سوى ما كانت تسمعه من أفواه من كانت تقابلهم في مقره، و التي لا تخرج عن كونها من باب الصدفة، و تطور الأمر بأن أصبحت تشعر بالأمان و الحماية في ظل وجودها معه، فأصبحت تتردد عليه في بيته و تقوم على رعايته و خدمة أفراد أسرته، بل و أصبحت تقضي معظم لياليها لديه.
و لم أستطع أنا و أسرتها إقناعها بعدم جدوى المضي في ذلك الطريق الذي لم تجن من ورائه أي شيء على مدار عدة شهور، لكنها استخدمت إحدى الوسائل الضاغطة، حيث هددت بالانتحار حرقا إذا ما أصرت أسرتها على منعها من التردد عليه.
102-///
ردحذفو لاحظت في الفترات التي كانت تقضيها لدي أنها قد توقفت عن الصلاة و التردد على المساجد كما كانت تفعل من قبل، حيث كانت تتوهم أن الجني الذي يتلبسها جني مسيحي، و أنه يمنعها من الصلاة، و أن ترددها على الكنائس و على الأب " ب " الذي لم يكن في واقع الأمر قسيسا أو راهبا يرضي ذلك الجني الذي يتلبسها،و الذي يتوقف عن التعرض لها و تعذيبها بظهور لها في أحلامها أو يقظتها كلما أكثرت من التردد على الكنائس و على الأب " ب ".
و بذلت فتاتنا جهودها المستميتة لإقناعي بزيارة الأب " ب " الذي سبق لها أن قصت عليه قصتي مع الصداع، و أنه قد أخبرها بأن علاجي شيء سهل و يسير و لا يستدعي مني سوى زيارة واحدة له.
و ظللت لعدة شهور أرفض تماما فكرة تلك الزيارة، حتى دفعني حب الاستطلاع في أحد الأيام إلى رؤية ذلك الرجل و التعرف على تلك القوى العجيبة لديه، التي استطاع بها أن يسيطر على عقل فتاتنا الشابة و ذهبت إليه.
و كان المقر عبارة عن شقة واسعة تحتل طابقا أرضيا بإحدى العمارات بحي شبرا، و فوجئت بأعداد من الرجال و النساء تكاد تتجاوز العشرين فردا، و قد جلسوا في انتظار عرض مشكلاتهم عليه، حيث كان يجلس إلى مائدة كبيرة تتوسط الصالة الواسعة بينما رصت المقاعد التي احتلها الحاضرون على جانبي الصالة.
و قدمتني فتاتنا إليه، و أدركت أنه يعلم عن ظروفي الشيء الكثير عندما أخبرني أنه قادر على علاجي، و أن علي مجاراته و الانصياع له و لتعليماته حتى يأذن الله بالشفاء، و أنه يبذل كل جهده لعلاج فتاتنا، و أن عليها الصبر و إعطاءه مزيدا من الوقت حتى يخلصها نهائيا من الجني الذي يتلبسها.
و بينما كنت أجلس بجواره على المائدة الكبيرة، حيث كان يقوم بعمل بعض الأحجية و إعطائها لكل صاحب حاجة كل في دوره مع تعليماته بما يجب عليه عمله من حيث استخدام البخور أو الاغتسال أو كيفية حمل الأحجية، كنت أرقب بملاحظاتي النقدية نمط المترددين عليه من مسلمين أو مسيحيين و أنواع مشكلاتهم و مدى إمكانيات ذلك الرجل الروحية، التي يسرت له استقطاب هذا العدد من الناس، و التأثير على البعض منهم إلى درجة إيمانهم المطلق به.
و حل وقت القداس أو الصلاة، و خيرني بين حضور الصلاة أو انتظاره لحين الانتهاء منها، ووجدتها فرصة سانحة لمعرفة ما يدور خلال تلك الصلاة، حيث توجهنا إلى حجرة أخرى كبيرة بها بعض المقاعد الوثيرة ذات الخشب المذهب، و حيث وقفنا جميعا فيما يشبه الحلقة، عدا بعض المسلمين الذين رفضوا حضور الصلاة دون أي محاولة من الرجل العجوز لإغرائهم أو الضغط عليهم لحضورها.
و بدأ الأب " ب " الصلاة التي لم تتعدى بعض الأدعية و تلاوة بعض آيات الإنجيل. بينما استغرقت أنا في تلاوة ما أحفظه من آيات القرآن الكريم.
و استغرقت الصلاة نحو ربع الساعة حيث خرجنا جميعا إلى الصالة مرة أخرى و حيث عدت معه للجلوس إلى المائدة.
103-///
ردحذفووجدت الأب " ب " قد استغرق لبعض الوقت في إعداد بعض الأحجية و اللفائف التي لم أدرك تماما محتواها، و وضعها جميعا في حزمة صغيرة واحدة، و التفت إلي يناولني إياها، قائلا إن سر هذه اللفافة سر " باتع " و إنها عبارة عن رسالة إلى " ملك الجان ". يأمره فيها بتسخير كل قواه للقضاء على الصداع الذي أعاني منه، و أن علي أن ألقيها في وسط النهر بنفسي و ليس قريبا من الشاطئ، و أنني سأرى بنفسي و للتو مدى تأثير تلك الرسالة و مفعولها الأكيد.
و تناولت منه اللفافة و أنا أكتم ابتسامتي، فقد جئت من أجل فتاتنا و إذا بقدمي تنزلق كما انزلقت فتاتنا من قبل، أو على الأقل كما يعتقد هو في قرارة نفسه.
و غادرت المقر بعد أن أكد علي ضرورة التردد عليه لاستكمال العلاج و الشفاء. حيث يحتاج الأمر مني مداومة التردد عليه و عدم التوقف عن هذا التردد بمجرد اختفاء الصداع.
و ما أن أخذت مكاني أمام عجلة قيادة سيارتي و فتاتنا الشابة إلى جواري، حتى بدأت في تحليل الموقف و تشخيص الأب " ب " نفسه، حيث أدركت من خلال تدقيقي الشديد في هيئته و ملامح وجهه و طريقته في الحديث أن لديه قوة هائلة في التأثير على من يتعامل معه، فقد كان رغم اقترابه من سن الأربعين تقريبا ذا هامة ضخمة متناسقة، و كان بشعره الكثيف الذي غطاه المشيب و ملامح وجهه الحادة، يوحي بشيء من المهابة و السيطرة، كما كانت نظراته و عيناه الحادتان المؤثرتان تنمان عن قدرة هائلة على الإيحاء الذي قد يصل إلى حد استلاب الإرادة و الاستقطاب.
و ظلت فتاتنا صامتة في انتظار تعليقي على هذه الزيارة، حيث حاولت إقناعها بلا جدوى أن كل ما يقوم به هو عملية إيحائية للمترددين عليه بقدرته على حل مشاكلهم. و أن قوة الإيحاء و الإيهام في كثير من الأحيان لها قوة السحر في استنفار مقاومة الجهاز المناعي للفرد، و كذلك في مواجهة معظم المشاكل.
و لم تقتنع مرافقتي الشابة بكل مبرراتي التي سقتها إليها في حكمي عليه، و ظلت تقنعني بأن تلك هي فرصتي الذهبية للتخلص من الصداع، و أن الأمر لن يستغرق مني سوى عدة دقائق لإلقاء اللفافة التي أعطاني إياها في النيل، و أن اختفاء الصداع سيكون الوسيلة الوحيدة لإقناعي بقدرات و كرامات الأب " ب " التي تؤمن به إيمانا مطلقا.
و جاريت فتاتنا و أنا أبتسم لها في استخفاف، حيث أدركت أن هذه التجربة التي أيقنت مسبقا بفشلها من خلال تجاربي الفاشلة الطويلة قد تكون خطوة لاقتلاع إيمانها بهذا الرجل.
104-///
ردحذفو توجهنا سويا بسيارتي إلى القرب من كوبري الجامعة، حيث ركنت سيارتي و حيث قطعنا المسافة من أول الكوبري إلى منتصفه سيرا على الأقدام، و ما أن وصلنا إلى هدفنا، حتى انتابني شعور هائل بالخجل " والكسوف " و أنا أرقب السيارات العابرة، حيث خيل لي أن كل راكبي السيارات و المارة يراقبون تلك المرأة المجنونة " التي هي أنا " و هي تلقي برسالتها إلى ملك الجان من وراء ظهرها، فقد كان من بين التعليمات الأب " ب " أن أقف و قد أدرت ظهري إلى النيل، ثم ألقي باللفافة من فوق كتفي إلى أقصى مدى في النيل، و كأنما هو يخشى علي من مواجهة و رؤية ملك الجان الذي قد يخرج لي من أعماق المياه ليتلقف الرسالة.
و فعلتها، أدرت ظهري إلى سور الكوبري الذي التصقت به و أمسكت باللفافة في يدي و أنا أرقب في خجل و استحياء تدفق السيارات، و ما هي إلا لحظة قصيرة توقف فيها تدفقها، حتى أسرعت في عجلة و لهفة في " تطويح " اللفافة من فوق كتفي إلى النيل.
و انتابتني في تلك اللحظة – و بينما غابت اللفافة في طيات مياه النيل- رغبة هائلة و أمل كبير رغم شكوكي في جدوى ما قمت به و خجلي منه بل و خجلي من مجرد مراودة مثل الأفكار لذهني، أن يكون هناك فعلا ملك للجان و أن يتلقف فعلا ذلك الملك رسالتي، و أن يمد ذلك الملك يده لينتزع ذلك الألم من جذوره.
و عدنا أدراجنا إلى حيث تركت سيارتي، حيث توجهنا إلى مصر الجديدة، بينما كانت فتاتنا الشابة لا تفتأ بين لحظة و أخرى عن النظر إلي و سؤالي عما إذا كان قد ذهب الصداع؟
****
و وصلنا مصر الجديدة. و صعدنا إلى شقتي، و كان الصداع ثالثنا.
ألم أقل إنه قد وقع في غرامي؟