ج6: رسالة الملاك والجن والشيطان وإمكانية تمثيله وتجسيده في صورة إنسان - هل يوجد دليل من القرآن يشهد لتمثيل الجن متجسدا في صورة إنسان - (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ) - (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) - هل في ألفاظ الآيات مثل (جار لكم) (نكص على عقبيه) (أرى ما لا ترون) ما يدل على تجسيد الشيطان في صورة إنسان يوم بدر - هل كان الشيخ بن تيميه على صواب في استدلاله على تجسيد الشيطان في صورة إنسان بالآيات القرآنية وأحاديثها المرتبطة بها.

     بسم الله الرحمن الرحيم

رسالة

الملاك والجن والشيطان

وإمكانية تمثيله وتجسيده في صورة إنسان

 (الفصل السادس)

#- فهرس:

:: الفصل السادس :: الأدلة من القرآن على وجود تمثيل للجن مُتجسدا في صورة الإنسان - ومناقشة هذه الأدلة ::

1- س31: هل يوجد دليل من القرآن يشهد لتمثيل الجن متجسدا في صورة إنسان ؟

أ- (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) الأنفال30.

ب- (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ) الأنفال48.

ج- وخلاصة القول في التحقيق على الآيات القرآنية التي استدل بها البعض لبيان تجسيد وتمثيل الجن في صورة إنسان.

2- س32: هل في ألفاظ الآيات مثل (جار لكم) (نكص على عقبيه) (أرى ما لا ترون) ما يدل على تجسيد الشيطان في صورة إنسان يوم بدر ؟

3- س33: هل كان الشيخ بن تيميه على صواب في استدلاله على تجسيد الشيطان في صورة إنسان بالآيات القرآنية وأحاديثها المرتبطة بها ؟!

*************************

:: الفصل السادس ::

:: الأدلة من القرآن على وجود تمثيل للجن مُتجسدا في صورة الإنسان - ومناقشة هذه الأدلة ::

***************************

 

..:: س31: هل يوجد دليل من القرآن على تمثيل الجن متجسدا في صورة إنسان ؟ ::..

 

- قبل أن أجيبك أخي الحبيب على هذا السؤال .. فعليك أن لا تنسى أننا ناقشنا عن تمثيل الجن ثلاث مسائل:

- الأولى: ناقشنا سابقا مسألة أن الجن ممكن أن يتمثل في هيئات مختلفة من الحيوانات وغيرها ..

- الثانية: وناقشنا مسألة أن الجن ممكن أن يتمثل في صوت مسموع لآحاد أو بعض الناس كالكهنة والسحرة بل وكل من فيه خاصية روحانية ..

- الثالثة: وناقشنا مسألة أن الجن ممكن أن يتمثل في صورة الإنسان كخيال مرئي في المنام ما عدا صورة الأنبياء والرسل ..

 

- ولكن في هذا الفصل والذي يليه إن شاء الله .. سنناقش مدى إمكانية أن يتمثل الجن والشيطان متجسدا في هيئة الإنسان كبني آدم في الواقع .. ويتحرك بهذه الهيئة بين الناس .. فهل هذا يجوز وممكن أن يحدث ؟!!

 

#- وهذه المسألة اختلف فيها العلماء .. فبعض العلماء قال بجواز أن يتصور ويتشكل ويتمثل الجن في صور إنسان .. وبعض العلماء أنكر ذلك .. والبعض توقف عن الخوض في ذلك .. ولكن ما دليل الذي أثبت ذلك .. خاصة وأن لهم نصوص قرآنية وروايات حديثية ..؟!

 

- سأبدأ بعرض الأدلة القرآنية والروايات الحديثية المصاحبة لها والتي تتبعت طرقها وتحقيق كل طريق فيها قدر استطاعتي .. ثم أناقش كل دليل مناقشة بسيطة .. وأسأل الله التوفيق.

 

#- قلت (خالد صاحب الرسالة):

#- الدليل الأول من القرآن .. وهو من الأدلة التي استدل بها البعض على إمكانية تمثيل وتشكل الجن في صورة إنسان:

 

- قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) الأنفال30.

 

#- والمعنى من تفسير المنتخب:

- واذكر - أيها النبي - نعمة الله عليك، إذ يمكر المشركون للإيقاع بك: إما بأن يحبسوك، وإما بأن يقتلوك، وإما بأن يخرجوك. إنهم يدبرون لك التدبير السيئ، والله تعالى يدبر لك الخروج من شرهم، وتدبير الله هو الخير وهو الأقوى والغالب. (انتهى النقل من التفسير).

 

#- ومن الروايات التي استدل بها البعض في تجسيد الجن عند هذه الآية .. هو الآتي:

- رُوِيَ عن ابن عباس قال: (أن نفرًا من قريش من أشراف كل قبيلة، اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال شيخ من نجد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم مني رأيٌ ونصحٌ. قالوا: أجل، ادخل! فدخل معهم...) جزء من رواية الطبري في تفسيره.

 

- وفي رواية بلفظ: (وَحَضَرَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ كَبِيرٍ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ) رواه بن سعد في الطبقات.

 

#- قلت (خالد صاحب الرسالة):

- وهذه الرواية السابقة عن بن عباس .. قد أخرجها بن اسحاق في سيرته وعنه رواها الطبري في تفسيره وفي تاريخه ..، ورواها أبو نعيم في دلائل النبوة، والبيهقي في دلائل النبوة، وابن سعد في الطبقات .. ولها طرق أخرى ولكن مختصرة ولم يذكر فيها قصة إبليس وتشكله بصورة شيخ نجد كما في رواية البزار وغيره ..

 

#- وقد انتفعت في تخريج هذه الرواية من تحقيق الشيخ الفاضل "علي إبراهيم حشيش الستاموني" في بحث مطول وجدته له على الإنترنت في موقع الألوكة تحت عنوان " تحكيم إبليس في دار الندوة" .. وقد جمع فيه كل طرق هذه الرواية وقام بتحليلها .. فاقتصرت منه بتحقيق العلل المتعلقة بطرق الروايات .. وأعدت ترتيبها وتنظيمها وأضفت إليها بعض مما لم ينتبه له أو فاته في تحقيق الروايات .. وإليك بيان تحقيق طرق رواية هذه القصة ..

 

1- أما عن رواية بن اسحاق .. فقد ذكرها هكذا: قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم من أصحابنا، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبر وغيره ممن لا أتهم عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: (لما أجمعوا لذلك واتّعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل ... ) راجع سيرة بن هشام ..

- وهذا السند علته هي جهالة مشايخ بن اسحاق الذين روى عنهم هذه الرواية .. كما أن هذه الرواة ظاهر فيها تدليس بن اسحاق كما هو معروف عنه.

 

2- أما عن رواية الطبري في تفسيره عن بن عباس .. عن طريق بن اسحاق .. فهي لم يصرح فيها بن اسحاق بالتحديث .. فظهر تدليسه ..

- وفي رواية أخرى للطبري في تفسيره عن طريق (الكلبي) وهو "محمد بن السائب الكلبي" وهو متهم بالكذب ومتروك الحديث .

 

3- أما عن رواية الطبري في تاريخه .. قد جاء فيها .. حدثنا ابن حُميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمَّد بن إسحاق، قال حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: ".... وذكر رواية الحديث الخاصة بحضور إبليس لدار الندوة متشكلا في صورة شيخ .... ".

- وإذا كان بن اسحاق قد صرح بالتحديث في هذه الرواية إلا أن هذه الرواية فيه علتان .. العلة الاولى وهي شيخ الطبري وهو " محمَّد بن حُميد بن حيان الرازي" وهو ضعيف جدا وقد كذبه بعض الأئمة كالنسائي وأبو زرعة..، والعلة الثانية وهي (عبد الله بن أبي نجيح ) قد دلس في الرواية عن مجاهد ..

 

4- أما عن رواية أبو نعيم في دلائل النبوية .. ففي أحدى طرقة عن بن اسحاق مجاهيل حيث ذكرها بنفس رواية بن اسحاق في سيرة بن هشام .. فقال: (فحدثني من لا أتهم من أصحابنا) ..

- وطريق ثاني فيه .. وهي "الفضل بن غانم" وهو ضعيف الحديث .

- وطريق ثالث فيه علل .. وهي "محمد بن السائب الكلبي" وهو متهم بالكذب.. فضلا عن أنه لم يسمع من أبو صالح الذي من المفترض أنه شيخه .. فضلا عن أن أبو صالح لم يرى ولم يسمع بن عباس الذي روى عنه القصة ..!!

 

5- وما رواه بن سعد في طبقاته عن محمد بن عمر الواقدي من خمسة طرق عن بن عباس وعائشة وعلي بن أبي طالب وغيرهم .. إلا أنها روايات غير مقبولة لأن الواقدي معلوم عنه أنه ضعيف الحديث .. والبعض ترك حديثه .. والبعض كذبه كالإمام أحمد بن حنبل ..

 

6- وباقي الروايات كالتي رواها البيهقي في دلائل النبوة وأبو حاتم في تفسيره وغيرهما .. فلا تخلو أسانيدها عن العلل الموجودة في الطرق السابقة .. حيث ستجد في أسانيدها نفس العلل ..

 

#- وخلاصة القول في هذا القصة السابقة:

- أن قصة الشيخ النجدي الذي تشكل إبليس في صورته .. هي قصة غير صحيحة .. وإن كان مجموع الطرق للقصة يدل على أن لها أصل تشير إليه .. وهذا الأصل هو اجتماع قريش للبحث في كيفية التخلص من النبي صلى الله عليه وسلم .. ولكن لا يؤخذ منها معتقد أن الشيطان يتجسد في صورة إنسان .. فانتبه .

 

- ملحوظة هامة: يوجد روايات أخرى بخلاف ما ذكرته لك ولكن لم أتعرض لها لأنها لا تفيد بحثنا .. لأنها لم يذكر فيها حضور إبليس لهذا الإجتماع ..!!

 

####################

 

#- الدليل الثاني من القرآن لمن أجاز تشكل وتمثيل الجن متجسدا في هيئة إنسان .. حيث قد استدلوا بالآتي:

 

- قوله تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) الأنفال 48.

 

#- واختلف العلماء عند هذه الآية في كيفية تزيين الشيطان للكفار .. هل بالوسوسة أم بالتمثيل في صورة إنسان وتحريضهم ؟!!

- وسبب الإختلاف بين العلماء .. هو الروايات التي تم ذكرها لتشرح كيف كان تزيين الشيطان .. وهي الروايات التي أشارت لتجسيد الشيطان .. فإذا ظهرت أنها باطلة فقد سقط الرأي الثاني ..

 

#- وإليك بيان رأي العلماء في تفسير الآية السابقة..

#- الرأي الأول: أن التزيين وهو يقصد به تحسين مقاتلة النبي والمؤمنين في نفوس المشركين يوم موقعة بدر ..

1- وسيلة التزيين هو بالوسوسة في نفوسهم .. ويكون معنى (نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ) استعارة تمثيلية لدلالة على بطلان كيده وأنه تراجع عن وسوسته واكتفى بما وسوس به حينما رأى مدد الله ..

 

- وعلى هذا التفسير .. أظن أن يكون معنى (أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ) هو مجرد قول قد قاله في نفسه وكأنه يقول: هذا أوان الرحيل عن تحريض هؤلاء القوم حيث قد دعوتهم فاستجابوا لي .. ويجب أن ارجع الآن حتى لا يصيبني ما سيصيبهم لأني أرى ما لا يرون وأخاف من الله أن ينزل بي عقابه من الضرر والأذى جزاء التحريض على مقاتلة نبيه .. وخوفا من أن ينزل الله بعقابه على جنودي فيتم قتلهم على يد الملائكة التي حضرت ..

 

- ونظير ما سبق هو ما جاء في قوله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) الحشر16..

 

#- والمعنى من تفسير المنتخب:

- مثل المنافقين في إغرائهم بنى النضير - بالتمرد على رسول الله - كمثل الشيطان حين أغرى الإنسان بترك الإيمان، فقال له: أكفر .. فلما كفر .. قال إني برئ منك .. إني أخاف الله رب العالمين. (انتهى النقل من التفسير).

 

2- وأصحاب الرأي أن تزيين الشيطان كان بالوسوسة في تفسير آية موقعة بدر .. قد استند البعض منهم في ذلك بما رواه بن جريج عن بن عباس قال: (لما كان يوم بدر، سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين، وألقى في قلوب المشركين: أنّ أحدًا لن يغلبكم، وإني جار لكم! فلما التقوا، ونظر الشيطان إلى أمداد الملائكة، نكص على عقبيه "قال: رجع مدبرًا"، وقال: (إني أرى ما لا ترون) الآية) رواه الطبري في تفسيره.. وقلت (خالد صاحب الرسالة): وهذه الرواية ضعيفة وفيها انقطاع بين بن جريج وبن عباس .. فضلا عن تدليس بن جريج ..

 

- وسار كثير من المفسرين على هذا الرأي أن التزيين كان بالوسوسة ..

 

3- وقد أشار الشيخ رشيد رضا رحمه الله (المتوفى: 1354هـ) .. إلى لطيفة مفادها أن الأرواح الطيبة والخبيثة تؤيد ما يشاكلها في عالم الإنس.. فهذه الوسوسة من الشيطان كانت نظير إلهام الملائكة للمؤمنين حينما قال تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) الأنفال12 .. (راجع تفسير المنار ج10 ص26).

 

#- الرأي الثاني: أن وسيلة التزيين بالكلام كان كلاما حقيقيا وليس بالوسوسة ..

- حيث تمثل الشيطان متجسدا في صورة إنسان في شكل "سراقة بن مالك" وكان سراقة ليس مسلما حينئذ .. وذهب في جماعة من جنوده لملاقاة قريش وقال أنه معين لهم وناصر .. فلما اجتمع الجيشان المؤمنين بالكافرين .. فقد تبرأ الشيطان من هذه المواجهة وتراجع حيث رأى الشيطان المتمثل في صورة سراقة بن مالك .. نزول الملائكة للقتال .. فخاف ورجع هو وجنوده معللا ذلك برؤية الملائكة وإن لم يصرح للكفار بأنهم ملائكة .. وأنه يخاف نزول عقاب الله عليه وعلى جنوده .. 

 

- واستند أصحاب الرأي بأن الشيطان تمثل وتشكل بصورة إنسان بالأخبار التالية:

1- (خبر مرسل ضعيف جدا) .. وَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: (لَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ مَا تَفْعَلُ الْمَلَائِكَةُ بِالْمُشْرِكِينَ أَشْفَقَ أَنْ يَخْلُصَ الْقَتْلُ إِلَيْهِ .. فَتَشَبَّثَ بِهِ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ .. فَوَكَزَ (أي إبليس) فِي صَدْرِ الْحَارِثِ فَأَلْقَاهُ (أي ألقاه على الأرض) .. ثُمَّ خَرَجَ هَارِبًا حَتَّى أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ .. فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ نَظْرَتَكَ إِيَّايَ (أي يقصد وعد الله له بأنه من المنظرين ليوم القيامة) ، وَخَافَ أَنْ يَخْلُصَ الْقَتْلُ إِلَيْهِ.

فَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ، لَا يَهْزِمَنَّكُمْ خِذْلَانُ سُرَاقَةَ إِيَّاكُمْ ; فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى مِيعَادٍ مِنْ مُحَمَّدٍ، لَا يَهُولَنَّكُمْ قَتْلُ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ .. فَإِنَّهُمْ قَدْ عَجَّلُوا، فَوَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَا نَرْجِعُ حَتَّى نُقْرِنَهُمْ بِالْحِبَالِ.

فَلَا أَلْقَيَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا مِنْهُمْ، وَلَكِنْ خُذُوهُمْ أَخْذًا حَتَّى تُعَرِّفُوهُمْ سُوءَ صَنِيعِهِمْ مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ إِيَّاكُمْ، وَرَغْبَتِهِمْ عَنِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى. ثُمَّ قَالَ أَبُو جَهْلٍ مُتَمَثِّلًا:

مَا تَنْقِمُ الْحَرْبُ الشَّمُوسُ مِنِّي ... بَازِلٌ عَامَيْنِ حَدِيثٌ سِنِّي

لِمِثْلِ هَذَا وَلَدَتْنِي أُمِّي) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ .. وقال الهيثمي في المجمع: وفيه عبد العزيز بن عمران وهو ضعيف.. (قلت خالد صاحب الرسالة): يوجد انقطاع بين (رفاعة بن رافع) والنبي صلى الله عليه وسلم ..، في السند (عبد العزيز بن عمران) وهو منكر الحديث وقد تركوا حديثه .. وإليك ما قاله العلماء عنه: فقال عنه ابن حبان : يروى المناكير عن المشاهير .، وقال أبو حاتم : ضعيف الحديث ، منكر الحديث جدا ، وقال ابن أبى حاتم : امتنع أبو زرعة من قراءة حديثه ، وترك الرواية عنه ..، وقال الترمذي ، والدارقطني : ضعيف ..، وقال البخاري : منكر الحديث ، لا يكتب حديثه .، وقال النسائي : متروك الحديث .. وقال في موضع آخر: لا يكتب حديثه .(راجع تهذيب التهذيب ج6 ص351 ..،  وتهذيب الكمال).

 

2- (خبر ضعيف جدا) .. بما روي في ذلك عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (جَاءَ إِبْلِيسُ يَوْمَ بَدْرٍ فِي جُنْدٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَعَهُ رَأَيْتُهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ لِلْمُشْرِكِينَ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ، فَلَمَّا اصْطَفَّ النَّاسُ، أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ، فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ. وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ إِلَى إِبْلِيسَ، فَلَمَّا رَآهُ، وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، انْتَزَعَ إِبْلِيسُ يَدَهُ، فَوَلَّى مُدْبِرًا هُوَ وَشِيعَتُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا سُرَاقَةُ تَزْعُمُ أَنَّكَ لَنَا جَارٌ؟ قَالَ: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] وَذَلِكَ حِينَ رَأَى الْمَلَائِكَةَ) رواه الطبري في تفسيره.. وقلت (خالد صاحب الرسالة): هذه الرواية ضعيفة وفيها ثلاث علل .. العلة الأولى هي انقطاع السند حيث أن علي بن أبي طلحة لم يسمع من بن عباس .. والعلة الثانية وهي شيخ الإمام الطبري واسمه (المثنى بن إبراهيم الآملي الأُبُلي) وهو مجهول الحال..، والعلة الثالثة وهي (عبد الله بن صالح – كاتب الليث بن سعد) وهو ضعيف الحديث.

 

3- استكمالا وتحقيقا للروايات التي ذكرها المفسرون مثل الإمام بن كثير في تفسيره في قصة تجسيد الشيطان في صورة إنسان:

- فقد أتت روايات أخرى من طرق أخرى في تجسيد الشيطان بشكل سراقة بن مالك .. كرواية بن عباس السابقة .. وقريبة من نفس الألفاظ ولذلك لم أذكرها بنصها .. ولكن أشير إليك برواتها وعلتها:

أ- رواية بن اسحاق عن بن عباس وفيها ضعف وعلته (محمد بن السائب الكلبي) وهو متهم بالكذب .. والكلبي لم يسمع من أبو صالح .. وأبو صالح لم يرى ولم يسمع من بن عباس .. "راجع ما قاله بن حبان في المجروحين ج2 ص255".

ب- رواية بن اسحاق عن عروة بن الزبير وهي رواية وفيها ضعف لأنها منقطعة عند التابعي "عروة بن الزبير"..

ج- رواية بن اسحاق عن  عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن بعض بني ساعده وهي في الدلائل للبيهقي .. وفيها ضعف .. وعلتها "أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ" وهو ضعيف الحديث .. وفيها مجهولية من روي عنهم وهم "بني ساعده" .

د- رواية عمر الواقدي عن بن عباس .. وهي ضعيفة .. والواقدي ضعيف الحديث فضلا عن وجود شيخه "عُمَرُ بْنُ عُقْبَةَ" في روايته وهو مجهول الحال ..

هـ- رواية  للطبراني عن رفاعة بن رافع .. وهي ضعيفة .. وفيها علة وهي "عبد العزيز بن عمران" وهو ضعيف الحديث وقد ذكر ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد..

- والله أعلم .

 

#- قلت (خالد صاحب الرسالة) في مناقشة الدليل السابق:

1- يتبين لك أخي الحبيب بجلاء تام أن الروايات التي تم الإستدلال بها على تجسيد الشيطان في صورة سراقة بن مالك .. ما هي إلا روايات ضعيفة أو غير صحيحة .. وقد حققت كل أسانيد الرواية التي وجدتها تشير لهذه الحادثة .. وهذه الروايات ليست حجة في الاستدلال بها على إثبات عقيدة بأن الشيطان له قدرة على التصور في صورة إنسان .. لأن العقائد لا تثبت بالضعيف ..!!

 

2- والذي يدل على إبطال رواية التجسيد وأنها كانت مجرد ظن ظنه البعض .. هو أن حدود عمل الشيطان في وقت الأنبياء والرسل هو مجرد إفساد دعوته من خلال الوسوسة في نفوس مخالفي النبي أو الرسول .. وفي ذلك يقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الحج 52.

 

#- والمعنى من التفسير الميسر:

- وما أرسلنا من قبلك - أيها الرسول - من رسول ولا نبي إلا إذا قرأ كتاب الله ألقى الشيطان في قراءته الوساوس والشبهات؛ ليصدَّ الناس عن اتباع ما يقرؤه ويتلوه، لكن الله يبطل كيد الشيطان، فيزيل وساوسه، ويثبت آياته الواضحات. والله عليم بما كان ويكون، لا تخفى عليه خافية، حكيم في تقديره وأمره. (انتهى النقل من التفسير).

 

3- وإنما القلب يطمئن في الآية .. أنها تمثيل لحال الوسواس مع الكفار .. كما هو الحال في عموم القرآن بتزيين الشيطان على أنه وسواس .. والله أعلم .

 

#- ورحم الله الشيخ أبو زهرة حينما قال:

- في هذه الآية نميل إلى النظر إلى أنها خير تصوير لاستمكان الشيطان من قلوب الكفار، وتحكمه فيها، وسد ينابيع الإدراك في نفوسهم .. ونميل إلى ذلك لأن خبر إبليس وتمثله بصورة سراقة لم يثبت بسند صحيح يفسر به القرآن .. ولأننا نفسر القرآن بما يبعده عن الغرائب .. وبما هو مأنوس للناس من غير تكذيب لأخباره .. والله أعلم .. (زهرة التفاسير ج 6 ص 3155).

 

4- ومن ناحية أخرى .. فالقول بأن الشيطان قد تجسد في بدر .. يجعلنا نتسائل فنقول: ولماذا لم يتجسد في باقي الغزوات أو في غير ذلك من أوقات وجود النبي أثناء نشر دعوته ؟!!

 

5- وإذا كان مجموع الطرق للقصة قد يدل على أن لها أصل تشير إليه .. فهذا الأصل هو أن الشيطان كان حاضرا في موقعة بدر كما أشار القرآن لذلك وهذا كما كانت الملائكة حاضرة .. ولكن لا يؤخذ منها أبدا معتقد أن الشيطان يتجسد في صورة إنسان .. فانتبه .

 ####################

#- وخلاصة القول في التحقيق على الآيات القرآنية التي استدل بها البعض لبيان تجسيد وتمثيل الجن في صورة إنسان:

1- أن قصة تمثيل الشيطان في صورة إنسان في موقعة بدر .. هي قصة غير صحيحة ولا دليل عليها ..

2- وقصة تمثيل الشيطان في صور شيخ من أهل نجد واجتماعه بكفار مكة .. في دار الندوة للبحث عن كيفية قتل النبي صلى الله عليه وسلم .. فهي أيضا قصة غير صحيحة .. وإن كانت تشير إلى اجتماع كفار قريش لبحث كيفية التخلص من النبي صلى الله عليه وسلم بدلالة الآية على ذلك ..

 

#- إذن لا يوجد دليل من القرآن يشير إلى أن الجن أو الشيطان يتجسد ويتمثل في صورة إنسان .. 

 

- انتبه أخي الحبيب: لازال لي مناقشة عامة في سؤال منفرد على هذه القصص السابقة خلاف ما ذكرته هنا .. ولكن سأؤخرها إلى حين مناقشة باقي الأدلة التي استدل بها البعض في إثبات تمثيل الجن في صورة إنسان .. من خلال ما جاء في روايات الحديث.. والتي سيأتي ذكرها في فصول قادمة إن شاء الله تعالى .

*****************

..:: س32: هل في ألفاظ الآيات مثل (جار لكم) (نكص على عقبيه) (أرى ما لا ترون) ما يدل على تجسيد الشيطان في صورة إنسان يوم بدر ؟ ::..

 
- بخصوص قوله تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) الأنفال 48.
 
- قد راسلني أحد الأحباب فقال لي ما هو ملخصه ومجمله:
1- هو أن لفظ: (جَارٌ لَّكُمْ) فيه دلالة على تجسيد الشيطان في الواقع فعلا .. إذ كيف يتم الجوار وهو العهد والأمان بالحماية .. إلا لو كان هناك من هو موجود فعلا ؟!!
 
2- هذا فضلا عن أن سياق الآية يُفهم منه من الوهلة الأولى هو أن الشيطان تشكل في صورة إنسان وظهر لهم وفعل فعلته التي حكى عنها القرآن ..
- وبالتالي لماذا لا يقال حينئذ أن الشيطان قد تجسد في صورة إنسان حتى على افتراض عدم صحة الروايات ؟!!
 
3- ومن ناحية أخرى .. لو افترضنا أن ما حدث في الآية هو نوع من الوسوسة .. فالوسوسة لا يترتب عليها عقاب فوري .. ولكن الآية تشير إلى أنه كان سيحدث عقاب فوري للشيطان .
 
#- قلت (خالد صاحب الرسالة):
- كنت في السابق أعتقد بأن الشيطان تجسد في غزوة بدر بسبب قصة سراقة بن مالك .. وساعد على ذلك بعض الألفاظ مثل قوله (جار لكم) (نكص على عقبيه) (أرى ما لا ترون) .. ولكن حينما بحثت في الآية وبما فيها من روايات .. فلا يمكن أن تكون هذه القصة صحيحة بأي حال من الأحوال ..!!
 
#- وعموما أجيبك إن شاء الله على ما سألت عليه .. في عدة نقاط:
 
1- إن القول بأن الشيطان ظهر للمشركين مجسدا في صورة إنسان .. فهذا يتطلب دليل عليه .. لأن الدليل في عموم القرآن لتزيين الشيطان هو للوسوسة في النفس .. وليس لغير ذلك .. ومن فسرها على التجسيد فقد فسرها للروايات وليس للألفاظ القرآنية .. لأنه يعلم أن هذا التجسيد يحتاج دليل والتزيين الشيطاني لا يكن عن تجسيد ؟!! فكيف يقول به حينئذ ؟!!
 
2- أما عن قوله (جار لكم) فهذا قول وليس فعل .. ووسوسته بالجوار تعني الغواية لهم في أنفسهم بان آلهتهم ستؤيدهم فهم في عهدها وأمانها .. وأنهم في جوار بعضهم البعض لكثرة عددهم وخيلهم وأسلحتهم مقارنة بالمؤمنين ..
 
- فالجوار استعارة تمثيلية لبيان كيف كان خدعة الشيطان بما زينه في أنفسهم .. من حماية بعضهم لبعض حماية آلهتهم لهم .. والله أعلم .
- وقوله (نكص على عقبيه) وقوله (أرى ما لا ترون) .. قد سبق شرح الاستعارة فيهما من خلال السؤال السابق ..
 
- بل والآية التي نتكلم عنها هي مشابهة لقوله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) الحشر16.. وهذه الآية هي استعارة تمثيلية لتصوير ما يوسوس به الشيطان في نفسية الإنسان .. وكيف يبيعك الشيطان للكفر ثم يعلن بأنه بريء من هذا الشخص الذي كفر لأنه لم يجبره على ذلك وإنما فقط دعاه إلى ذلك .. وهذا التصوير لتفهم أن مهمة الشيطان هي أن يجعلك تصل للكفر من خلال التشكيك في الله أو العقيدة أو القرآن أو النبي .. وفي نفس الوقت هو يتخلى عنك ولا يعرفك ..

- ومع ذلك في هذه الآية السابقة .. لم يقل أحد من المفسرين في هذه الآية أن الشيطان يتجسد في صورة إنسان ليقول للإنسان "اكفر" ولا يتجسد له بعد كفره ليقول له "إني بريء منك إني اخاف الله رب العالمين" ..!!
 
#- ملحوظة هامة: هناك من العلماء (الطاهر بن عاشور رحمه الله) من أتى برأي غريب لم أقرأه لغيره .. قال فيه ما ملخصه:

- أن سراقة بن مالك كان موجود فعلا هو وجنوده .. ولكنه قد أتى عن وسوسة من الشيطان له بأن يذهب لنصرة قريش في حربها مع الرسول .. وليس لأن الشيطان هو الذي تمثل في شكل سراقة بن مالك ..!! (أي المسألة كانت وسوسة لسراقة بن مالك في أن يتم تحريضه في الذهاب لنصرة الكفار) ..

 
- قلت تعقيبا على الرأي السابق: ولكن هذا الرأي سيصادفه مشكلة عند قوله (أرى ما لا ترون) فكيف يكون ذلك القول من سراقة بن مالك إذ أنه لم يكن مكشوف عنه الحجاب ليرى الملائكة ..؟!! فضلا عن أنه لم يكن مؤمنا بالله حينئذ فكيف يقول (أخاف الله - والله شديد العقاب) وهو لا يؤمن به ولا يعتقد فيه من أساسه حتى ذلك الوقت ..!! والله أعلم.
 
3- أما عن ظنك بأن القراءة للوهلة الأولى يتم الفهم منها بأن الشيطان قد تجسد في صورة إنسان وقال لهم هذا الكلام مواجهة لهم ..
- فهذا لا علاقة له بالفهم من الوهلة الأولى .. وإنما له علاقة بمعتقد نفسي مسبق يسكن في عقولنا سنوات طويلة وهو أن الشيطان قد تجسد في غزوة بدر في صورة سراقة بن مالك ..!!
 
- ومثال الفهم الخطأ من الوهلة الأولى أيضا: اعتقادنا المسبق في نفوسنا بأن القرآن يحرق الجن والشيطان .. في حين لا وجود لهذه العقيدة سواء في القرآن أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم .. ولكنك إذا سألك أحد هل القرآن يحرق الشيطان والجن ؟ ستجيب من الوهلة الأولى وتقول: نعم هو يحرقهم ..!!
 
- فالوهلة الأولى مرتبطة عند البعض باعتقاد مسبق .. وليس عن فهم صحيح لمعاني القرآن ..!!
 
4- ولكن الحقيقة هو أنه لو تعلمنا القرآن .. لفهمنا أن التزيين الشيطاني يأتي في القرآن من خلال الوسوسة وليس عن طريق المباشرة والمواجهة بان يتجسد الشيطان في صورة إنسان ..!!
 
- فلفظ التزيين الشيطاني يأتي وسوسة في النفس بتحلية الباطل .. كما قال تعالى: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأنعام43.. وكقوله (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) محمد 14 ..
 
5- أما عن قولك أن الوسوسة والتزيين لا عقاب فوري عليها .. فهذا محل نظر .. ليه ؟ لأنك حينما تستعيذ من الشيطان فيتم طرد الشيطان وحجابه عنك .. فهذا عقاب له بالطرد إهانة له .. كما حجبه الله من رحمته وطرده من ملكوته .. فليس عقاب الشيطان بالقتل فقط وإنما بنزول الحجاب عليه وطرده إهانة له وهذا يحدث بالإستعاذة بالله من وسوسة الشيطان .. هذا على افتراض تم الاستعاذة بالله من الشيطان بصدق يقين من المستعيذ .
 
- ومن ناحية أخرى .. نجد أن العقاب ما كان سينزل على الشيطان بسبب وسوسته .. وإنما بسبب تواجده ومشاركته في المعركة حتى ولو بالوسوسة .. ولذلك لم يهرب عند رؤية الملائكة .. وإنما عند التقاء الجيشين .. حتى اطمئن أنه لا رجعة عن القتال .. فقد أدى مهمته بالأغواء والتزيين .. ولا يحق له الإستمرار عن ذلك لأنه سيكون قد خرج عن مهمته وتجاوزها والتي هي التزيين بالوسوسة بالتحريض .. إلى التزيين بالوسوسة بقوة في نفوس الكفار لرفع الهمة فيهم لمقاتلة المؤمنين .. كما كان من وظيفة الملائكة هو رفع الهمة وتثبيت المؤمنين على المقاتلة ومواجهة الكفار ..   
 
- ولذلك مساعدته في رفع الهمة للكفار في مواجهة المؤمنين .. فهذا مشاركة فعلية في مقاتلة نبي .. فحق عليه حينئذ أن يصيبه بعض ما يصيب الكفار من ألوان الاذى ولكن دون موت له لأنه من المنظرين ..
- والله أعلم .
  

***************************

..:: س33: هل كان الشيخ بن تيميه على صواب في استدلاله على تجسيد الشيطان في صورة إنسان بالآيات القرآنية وأحاديثها المرتبطة بها ؟! ::..

 

- أخي الحبيب ..

- في بعض مواقع الفتاوى المنتشرة على الإنترنت .. ستجد فتاوى مشحونة بكلام منقول من كتب العلماء دون بيان ولا تحقيق لهذا الكلام وكأنه ينقل كلاما تم التسليم بصحته وكأنه وحيا يوحى ..!!

 

- والقصد هو إني قد وجدت بعض أهل الفتوى على الإنترنت يستدل بكلام الشيخ بن تيميه في أن الجن يتجسد في صورة إنسان ..!!

 

- وكذلك كان الإمام الشبلي رحمه الله (المتوفى:769 هـ) قد نقل كلام الشيخ بن تيميه إلا أنه لم يشير إلى أنه نقله عنه .. وذلك في الباب السادس تحت عنوان "بيان تطور الجن وتشكلهم" من كتابه "آكام المرجان" والذي يتم طباعته تحت عنوان "عجائب وغرائب الجن"..

 

#- فماذا كتب الشيخ بن تيميه رحمه الله (المتوفى: 728هـ) ؟

#- قال الشيخ بن تيميه رحمه الله:

- والجن يتصورون في صور الإنس والبهائم .. فيتصورون في صور الحيات والعقارب وغيرها .. وفي صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير .. وفي صور الطير .. وفي صور بني آدم ، كما أتى الشيطان قريشاً في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لما أرادوا الخروج إلى بدر، قال تعالى: {وإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمْ اليَوْمَ مِنَ النَّاسِ وإِنِّي جارٌ لَكُمْ} ، إلى قوله: {وَاللهُ شَديدُ العِقابِ} .

- وكما روى أنه تصور في صورة شيخ نجدي لما اجتمعوا بدار الندوة هل يقتلوا الرسول أو يحبسوه أو يخرجوه؟ كما قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَروا لِيُثْبِتوكَ أَوْ يَقْتُلوكَ أَوْ يُخْرِجوكَ وَيَمكرُون وَيَمْكُرُ اللهُ واللهُ خَيْرُ الماكِرينَ} . (مجموع الفتاوى ج19- 44-45).

 

#- قلت (خالد صاحب الرسالة):

- أولا: ولو كان الإمام بن تيميه رحمه الله يقصد بالتصوير هو التخيل .. لقلت جائز ذلك في كل ما ذكره من صور .. لأن الخيال مجرد صور تخيلية كما في الأحلام .. ولكنه أتى بعد ذلك بقصتين تدلان على أنه يقصد بالتصوير هو التجسيد في عالم الواقع بهذه الأشكال التي ذكرها .. منهما قصة سراقة بن مالك وقصة الشيطان الشيخ النجدي الذي ظهر للكفار في دار الندوة .. !!

 

- ولذلك أقول من أين أتي بهذا التصوير المتجسد في التجسيد صور طيور وصور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير ؟!! في أي نص مكتوب هذا الكلام ؟!!

 

- وأتسائل متعجبا: هل نسى الإمام بن تيميه القسم البحري ؟!! حيث كان حري به أن يقول ويتشكلون في شكل السمك والحيتان والاخطبوط وما شابه ذلك .. حتى يكون قد جمع البر والبحر والجو ومنح الجن سلطة التشكل بهذه البيئات ..!!

- وكأن الجن أصبح فجأة مطلق التصرف في التصور دون قيود في أي شكل حيواني أو إنساني "طبعا ماعدا الأنبياء والرسل" .. !! فكيف تصدق هذا الكلام يا مؤمن يا عاقل ؟!! وكيف تمنح قدرات ليست لهذا العالم وتنسبها إليه ؟!!

 

- ثانيا: والذي يسبب انزعاج في النفس .. أن الشيخ بن تيميه ذكر كلامه بصيغة الجزم وكأن ما يذكره يحدث فعلا وعن يقين ..!! ولو كان قاله ظنا منه .. فلا مشكلة .. إلا أن كلامه يُفهم منه ثبات المعلومة بيقين .. فمن أين أتى بها اليقين في كل هذه التصورات التي زعمها ان الجن يتصور بها ؟!!

 

- ثالثا: قد ثبت لك أخي الحبيب أن هذه القصص ضعيفة وليست حجة في الإستدلال على مثل هذه الوقائع الغيبية حتى يتم الترويج لها على أنها معتقد يجب التسليم له وكأنه حقيقة ونجعلها دين نؤمن به .. كما ينشر ذلك الناشرون ويروجون له .. والدليل هو قول الشيخ بن تيميه .. فهل العقيدة الغيبية تؤخذ من كلام الشيخ بن تيميه أو حتى من غيره من العلماء مهما كان شهرتهم أم أن المعتقدات الغيبية تؤخذ من كلام الله ورسوله ؟!!

- لا حول ولا قوة إلا بالله ..

 

- رابعا: وعلى افتراض صحة هذه الروايات - وهي غير صحيحة - فإن الشيخ بن تيميه وغيره من العلماء الذين وافقوه في كلامه .. ممن ظنوا تجسيد الجن من خلال هذه الروايات السابقة .. لم ينتبهوا إلى أن التمثيل إنما كان في هيئة كافر ولم يكن في هيئة مؤمن .. ففي قصة سراقة بن مالك .. كان لايزال حينئذ مشرك ولم يؤمن .. وفي قصة شيخ نجد أتي الشيطان وهو بهيئة إنسان حليف لهم على شركهم ..!!

 

- فكان من الواجب أن يقال حينئذ أن الشيطان يتجسد في صورة الإنسان الكافر .. وليس في صورة إنسان على العموم ..!!

- مش كده ولا إيه يا ناس يا عقلاء ؟!!

 

- وبالتالي فإن الذي يقول معتقدا في هاتين القصتين وعلى افتراض صحة هذا التجسيد الشيطاني لصورة الإنسان .. فلا يصح له القول أن الجن والشيطان يستطيع التشكل والتمثيل في أي هيئة إنسانية مطلقا .. لا .. بل في هيئة أهل الشرك والكفر .. لأن هذه الروايات تحكمه حينئذ .. وإلا فليأتنا بما يدل على أن الشيطان تمثل متجسدا بصور العلماء والصالحين والشهاء وأشباههم ؟!! وهيهات له ذلك .. ليه ..؟

 

- لأن هذا سيجعلنا نقول أن الإمام أحمد والشافعي ومالك وأبو حنيفة وجمهور المفسرين والشيخ بن تيميه أيضا جميعهم قد تمثل الشيطان بصورهم وهو الذي كتب كتبهم ؟!!

- وهذا كلام لا يقول به مؤمن عاقل ؟!! لأن هذا سيكون معتقد في الشيطان بأنه متصرفا في الكون بإرادته والله غافلا عنه .. وهذا كفر بالله حينئذ ..!!

 

#- خلاصة القول:

1- ما سبق هو رأيي في مثل هذه الفتاوى المنتشرة على الإنترنت وتستتر تحت قول الإمام بن تيميه رحمه الله .. وهذه فتاوى تحتاج لمراجعة وتحقيق .. لأن هذه العقائد الغيبية هي التي يستخدمها خدام الجن والشيطان وينشرونها بين الناس ويخوفونهم بها بأنهم سيرسلون جن ستجيد لهم ويغتصبهم ويضربهم وما شابه هذا الكلام .. ويؤكدوه كلامهم بكلام الشيخ بن تيميه الذي تنشره هذه الفتاوى ..

 

2- والغريب في الأمر .. أن الذي يكتب الفتوى لم يسأل ولو نفسه فيقول: إذا كان هناك أدلة على تشكل الجن في صورة أفاعي أو كلاب أو قطط وبعضهم يطير في الهواء وليس "يتحول لطير" !! .. وفي روايات ضعيفة في صورة عقارب .. فمن أين أتي الشيخ بن تيميه بأن الجن يتصور في صورة طيور وصور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير ؟!! في أي نص مكتوب هذا الكلام ؟!!

 

3- والأغرب مما سبق .. هو أنهم ينقلون من كلام العلماء ما ليس له دليل في الشرع .. وينشرونه بين الناس وكأنه عقيدة غيبية مُسلَّم بها .. فهذا نشر باطل وترويج لعقيدة غيبية فيها تفخيم وتعظيم للجن بقدرات ليست له ومنها التصور متجسدا بشكل الإنسي إنسانا سويا .. أو بشكل البغال والخيل والبقر وما تم ذكره ولا دليل عليه ..

- والله أعلم .

 ******************

 يتبع إن شاء الله تعالى

*****************

والله أعلم

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وسلم

هذه الرسالة مصدرها - مدونة الروحانيات فى الاسلام -  ولا يحق لأحد نقل أي موضوع من مواضيع أو كتب أو رسائل المدونة .. إلا بإذن كتابي من صاحب المدونة - ا/ خالد أبوعوف .. ومن ينقل موضوع من المدونة أو جزء منه (من باب مشاركة الخير مع الآخرين) فعليه بالإشارة إلى مصدر الموضوع وكاتبه الحقيقي .. ولا يحق لأحد بالنسخ أو الطباعة إلا بإذن كتابي من الأستاذ / خالد أبوعوف .. صاحب الموضوعات والرسائل العلمية .