ج2: قصة بلعام بن باعوراء - مَن هو المقصود في كلام العلماء عند قوله تعالى (الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) - بعض التفسيرات والإشارات حول قوله تعالى (الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) ، قوله (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)

    بسم الله الرحمن الرحيم

قصة بلعام بن باعوراء

النبي أم الولي العالم العابد صاحب الدعاء المستجاب

الذي قيل عنه قد كفر ونكح حمارته

وقصة المرأة البسوس

التي تحولت كلبة

حقيقة واقعية أم قصص خرافية

 (الفصل الثاني)

#- فهرس:

:: الفصل الثاني :: عن تفسير قوله تعالى (الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) – (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)::

1- س4: مَن هو الشخص المقصود في قوله تعالى (الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) كما قال العلماء المحققين ؟

2- س5: ما هي بعض التفسيرات والإشارات حول قوله تعالى (الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) ، قوله (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) ؟

3- س6: لماذا ترك الله الذي أتته آيات الله لاختيار نفسه حتى انسلخ منها ولم يشأ الله له أن يدركه بلطفه وعنايته ؟ 

#- ختام الموضوع .

**********************

:: الفصل الثاني ::

************************

..:: س4: مَن هو الشخص المقصود في قوله تعالى (الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) كما قال العلماء المحققين ؟  ::..

 

#- قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ) الأعراف:175-177.

 

#- قال الإمام محمد سيد طنطاوي رحمه الله (المتوفى: 1431 هـ):

- والذي ذهب إليه المحققون من العلماء .. أن هذه الآيات الكريمة المثل فيها مضروب لكل إنسان أوتى علما ببعض آيات الله، ولكنه لم يعمل بمقتضى علمه، بل كفر بها ونبذها وراء ظهره وصار هو والجاهل سواء.

- وقيل: إن الآيات الكريمة واردة في شخص معين، واختلفوا في هذا المعين.

فبعضهم قال إنها في أمية بن أبى الصلت، فإنه كان قد قرأ الكتب، وعلم أن الله مرسل رسولا وتمنى أن يكون هو هذا الرسول .. فلما أرسل الله- تعالى- نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم حسده ومات كافرا.

- وبعضهم قال: نزلت في أبى عامر الراهب ..الذي سماه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الفاسق» .. كان يترهب في الجاهلية فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام، وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار والشقاق.

- وبعضهم قال: إنها في منافقي أهل الكتاب، كانوا يعرفون صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومخرجه، فلما بعثه الله- تعالى- كفروا به.

- وبعضهم قال: إنها نزلت لتحكي قصة رجل من علماء اليهود اسمه بلعم ابن باعوراء أوتى علم بعض كتب الله ثم انسلخ منها بأن كفر بها ونبذها بعد أن رشاه اليهود.

#- والذي نراه أن الرأي الأول .. الذي عليه المحققون من المفسرين هو الراجح .. وأن هؤلاء الذين ذكروا يندرجون تحته .. لأنه لم يرد نص صحيح يعين اسم الذي وردت الآيات في حقه .. فوجب أن نحملها على أنها وارد في شأن كل من علم الحق فأعرض عنه واتبع هواه. (التفسير الوسيط لطنطاوي - ج5 ص438-439)

 

#- قلت (خالد صاحب الرسالة):

- وجدت رأي يقول: لعل المقصود هو فرعون إذ كان قبل تلك الآيات كلام عن قصة موسى ومنها حكايته مع فرعون .. واستغرقت قصة موسى عموما من الآية (103 - وحتى الآية – 155) من سورة الأعراف .. وهذا الرأي يقول لعل المقصود بالذي انسلخ من آيات ربه هو فرعون: "إذ قال في حق فرعون: (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى) طه:56 .. وجائز أن يكون هذا الموصوف فرعون .. فإنه تعالى أرسل إليه موسى وهارون، فأعرض وأبى، وكان عاديا ضالا متبعا للشيطان". (تفسير الفخر الرازي ج15 ص404).

 

- ثم قال الأمام الفخر الرازي تعقيبا على هذا الرأي: قوله (انسلخ منها) يدل على أنه كان فيها ثم خرج منها، وأيضا فقد ثبت بالأخبار أن هذه الآية إنما نزلت في إنسان كان عالما بدين الله تعالى، ثم خرج منه إلى الكفر والضلال. (تفسير الفخر الرازي ج15 ص404).

 

#- خلاصة القول:

- أن قوله تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) .. هي آية تتعلق بشخص ما .. قد رزقه الله من كرامة المعرفة بالله والإيمان ما يؤهله بالبقاء في مقام الهداية .. إلا أنه تنازل عنه من أجل أطماع دنيوية .. حتى انسلخ عنه الإيمان تماما وكأنه جلد قديم كان يستتر به .. وارتضى بلبس جلد جديد وهو الغواية .. حتى تمكن منه هذا الوصف حتى استقر فيه راضيا به .. وأصبح من الغاوين حتى يوم مماته.

 

@- ورحم الله الإمام محمد بن أحمد المعروف بأبي زهرة (المتوفى: 1394هـ) .. إذ قال:

-  كتب التفسير في هذه الآية مملوءة بأساطير يهودية .. لم تثبت بسند صحيح يصلح تفسيرا للقرآن .. ولذلك ضربنا عن ذكرها صفحا .. ذلك أنهم زعموا أن قوله تعالى: (نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا) يتعرض لقصة شخص معين .. فاستعانوا بالإسرائيليات ليعلموا من هو.

- والحقيقة أنه ليس بشخص معين .. إنما هو تصوير لمن تأتيه الآيات السابقات بالنور فيتركها.

- وزعموا أن قوله تعالى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) ففهموا من هذا أنها قصة لها أشخاص ورجال وحوادث، فاستعاروها من بني إسرائيل، وهذا لَا يساعده النص، إنما النص في قصص المثل ذاته، ولذلك قال تعالى: (ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). (زهرة التفاسير ج6 ص3008).

 

*************************

..:: س5: ما هي بعض التفسيرات والإشارات حول قوله تعالى (الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) ، قوله (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) ؟ ::..

 

#- أولا: مما قاله الإمام محمد سيد طنطاوي رحمه الله (المتوفى: 1431 هـ):

1- وقوله- تعالى- (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) أي: اقرأ على قومك يا محمد ليعتبروا ويتعظوا خبر ذلك الإنسان الذي آتيناه آياتنا بأن علمناه إياه، وفهمناه مراميها، فانسلخ من تلك الآيات انسلاخ الجلد من الشاة، أو الحية من جلدها.

- والمراد أنه خرج منه بالكلية بأن كفر بها، ونبذها وراء ظهره، ولم ينتفع بما اشتملت عليه من عظات وإرشادات.

- وحقيقة السلخ .. كشط الجلد وإزالته بالكلية عن المسلوخ عنه .. ويقال لكل شيء فارق شيئا على أتم وجه انسلخ منه. وفي التعبير به ما لا يخفى من المبالغة. (التفسير الوسيط لطنطاوي - ج5 ص436).

 

2- وفي التعبير بقوله (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ): مبالغة في ذم هذا الإنسان وتحقيره، جعل كأنه إمام للشيطان والشيطان يتبعه .. فهو على حد قول الشاعر:

- وكان فتى من جند إبليس فارتقى ... به الحال حتى صار إبليس من جنده

#- قال الجمل: أتبعه فيه وجهان:

- أحدهما: أنه متعد لواحد بمعنى أدركه ولحقه، وهو مبالغة في حقه حيث جعل إماما للشيطان.

- وثانيهما: أن يكون متعديا لاثنين لأنه منقول بالهمزة من تبع، والمفعول الثاني محذوف تقديره: فأتبعه الشيطان خطواته، أي جعله تابعا لها. (التفسير الوسيط لطنطاوي - ج5 ص436).

 

3- وقوله (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها): كلام مستأنف مسوق لبيان ما ذكر من الانسلاخ وما يتبعه..، والضمير في قوله (لَرَفَعْناهُ) يعود إلى الشخص المعبر عنه بالاسم الموصول (الَّذِي) والضمير في قوله (بِها) يعود إلى الآيات. ومفعول المشيئة محذوف.

- أي: ولو شئنا رفعه بسبب تلك الآيات إلى درجات الكمال والعرفان لرفعناه لأننا لا يستعصى على قدرتنا شيء .. ولكننا لم نفعل ذلك لأن سنتنا جرت أن نرفع من عنده الاستعداد لذلك أما الذين استحبوا العمى على الهدى فنذرهم في ضلالهم يعمهون.

- وقد بين القرآن هذا المعنى .. في قوله: (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) ..، أخلد إلى الأرض: أي ركن إليها..، وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود. (التفسير الوسيط لطنطاوي - ج5 ص436-437).

 

4- قال الآلوسى: وما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه- تعالى- ونسبة الانسلاخ والإخلاد إلى العبد .. مع أن الكل من الله- تعالى-، إذ فيه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه. ومن هنا قال صلّى الله عليه وسلّم (اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك). (التفسير الوسيط لطنطاوي - ج5 ص437).

 

5- والإشارة في قوله (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ): إلى وصف الكلب أو إلى المنسلخ من الآيات، أي: ذلك المثل البعيد الشأن في الغرابة مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا من الجاحدين المستكبرين المنسلخين عن الهدى بعد أن كان في حوزتهم. (التفسير الوسيط لطنطاوي - ج5 ص437).

 

#- ثانيا: مما قاله الإمام الطاهر بن عاشور رحمه الله (المتوفى : 1393هـ):

1- والانسلاخ: حقيقته خروج جسد الحيوان من جلده حينما يسلخ عنه جلده، والسلخ إزالة جلد الحيوان الميت عن جسده، واستعير في الآية للانفصال المعنوي .. وهو ترك التلبس بالشيء أو عدم العمل به .. ومعنى الانسلاخ عن الآيات الإقلاع عن العمل بما تقتضيه .. وذلك أن الآيات أعلمته بفساد دين الجاهلية.

 

2- و"أتبعه" بهمزة قطع وسكون المثناة الفوقية: بمعنى لحقه غير مفلت كقوله: (فأتبعه شهاب ثاقب) الصافات:10 ..، (فأتبعهم فرعون بجنوده) طه:78 ..، وهذا أخص من "اتَّبَعَه" بتشديد المثناة ووصل الهمزة.

 

3- والمراد بالغاوين: المتصفين بالغي وهو الضلال فكان من الغاوين أشد مبالغة في الاتصاف بالغواية من أن يقال: وغوى أو كان غاويا، كما تقدم عند قوله تعالى: (قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين) في سورة الأنعام:56.

- ورتبت أفعال الانسلاخ والاتباع والكون من الغاوين .. بفاء العطف على حسب ترتيبها في الحصول .. فإنه لما عاند ولم يعمل بما هداه الله إليه حصلت في نفسه ظلمة شيطانية مكنت الشيطان من استخدامه وإدامة إضلاله، فالانسلاخ على الآيات أثر من وسوسة الشيطان، وإذا أطاع المرء الوسوسة تمكن الشيطان من مقاده .. فسخره وأدام إضلاله .. وهو المعبر عنه ب (فأتبعه) فصار بذلك في زمرة الغواة المتمكنين من الغواية.

 

4- وقوله تعالى: (ولو شئنا لرفعناه بها): أفاد أن تلك الآيات شأنها أن تكون سببا للهداية والتزكية، لو شاء الله له التوفيق وعصمه من كيد الشيطان وفتنته فلم ينسلخ عنها ..

- وهذه عبرة للموفقين ليعلموا فضل الله عليهم في توفيقهم .. فالمعنى: ولو شئنا لزاد في العمل بما آتيناه من الآيات فلرفعه الله بعلمه.

- والرفعة مستعارة لكمال النفس وزكائها .. لأن الصفات الحميدة تخيل صاحبها مرتفعا على من دونه .. أي لو شئنا لاكتسب بعمله بالآيات فضلا وزكاء وتميزا بالفضل.

- فمعنى (لرفعناه) ليسرنا له العمل بها الذي يشرف به.

- وقد وقع الاستدراك على مضمون قوله: (ولو شئنا لرفعناه بها) بذكر ما يناقض تلك المشيئة الممتنعة .. وهو الاستدراك بأنه انعكست حاله (فأخلد إلى الأرض)، أي ركن ومال إلى الأرض ..

- والكلام تمثيل لحال المتلبس بالنقائص والكفر بعد الإيمان والتقوى .. بحال من كان مرتفعا عن الأرض فنزل من اعتلاء إلى أسفل .. فبذكر الأرض علم أن الإخلاد هنا ركون إلى السفل .. أي تلبس بالنقائص والمفاسد.

- واتباع الهوى: ترجيح ما يحسن لدى النفس من النقائص المحبوبة .. على ما يدعو إليه الحق والرشد ..

- فالاتباع مستعار للاختيار والميل .. والهوى شاع في المحبة المذمومة الخاسرة عاقبتها. (التحرير والتنوير ج9 ص176).

 

#- ثالثا: مما قاله الإمام ابن عجيبة الحسني رحمه الله  (المتوفى: 1224هـ):

1- قال تعالى: (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ) إلى منازل الأبرار بِها أي: بسبب تلك الآيات وملازمتها، (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) أي: مال إلى الدنيا وحطامها، أي: أخلد إلى أرض الشهوات، (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في إيثار الدنيا واسترضاء قومه، أو صيانة رئاسته وجاهه.

- قال البيضاوي: وكان من حقه أن يقول: "ولكنه أعرض عنها" ..، فأوقع موقعه: (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) مبالغةً وتنبيهًا على ما حمله عليه .. وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة. هـ.

- (فَمَثَلُهُ) أي: فصفته التي هي مثلٌ في الخسة .. (كَمَثَلِ الْكَلْبِ) أي: كصفته في أخس أحواله .. وهو (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) أي: يلهث دائمًا، سواء حمل عليه بالزجر والطرد .. أو ترك ولم يتعرض له ..

 

2- واللهث: إدلاع اللسان من التنفس الشديد، والمراد: لازم اللهث .. وهو نفي الرفع ووضع المنزلة.

- قال ابن جزي: اللهث: هو تنفس بسرعة، وتحريك أعضاء الفم، وخروج اللسان، وأكثر ما يعتري ذلك الحيوانات عند الحر والتعب، وهي حالة دائمة للكلب ..، ومعنى (إن تحمل عليه) : أن تفعل معه ما يشق عليه، من طرد أو غيره، أو تتركه دون أن تحمل عليه .. فهو يلهث على كل حال.

- ووجه تشبيه ذلك الرجل به: أنه إن وعظته فهو ضال.. وإن لم تعظه فهو ضال .. فضلالته على كل حال. هـ. (البحر المديد ج2 ص282).

 

3- وقال في الإحياء: إن بلعم أوتي كتاب الله تعالى فأخلد إلى الشهوات، فشُبه بالكلب، أي: سواء أوتي الحكمة أو لم يؤتها فهو يلهث إلى الشهوات. هـ.

- وفي ذكر قصته تحذير لعلماء هذه الأمة وصلحائها..، وقال الشيخ أبو الحسن رضى الله عنه: من أخلدت نفسه إلى أرض الشهوات، وغلبته عن النهوض إلى الطاعات، فدواؤه في حرفين، أحدهما: أن يذكر منّة الله عليه بنعمة الإيمان والإسلام، ويقيد هذه النعمة بالشكر، لئلا تفلت من يده، والثاني: أن يتوجه إلى الله بالتضرع والاضطرار، آناء الليل والنهار، وفي رمضان راجيًا الإجابة، قائلاً: اللهم سَلِّم سَلِّم. فإن أهمل هاتين الخصلتين فالشقاوة لازمة له. أ.هـ (البحر المديد ج2 ص282).

 

#- رابعا: قلت (خالد صاحب الرسالة) عن رأي خاص في تفسير قوله (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) – وتنبيهات من الآيات:

1- لم أجد وجه للشبه مقنع في كتب التفسير المتاحة لدي .. لتوصيف حال الذي انسلخ من آيات ربه .. بحال الكلب وهو يلهث .. لأن التشبيه غريب لدرجة تثير العقل بشدة لمعرفة المقصد من وراءه .. وتوقفت أمامه كثيرا .. وقرأت كثيرا .. ولم أجد ما أردته .. حتى خطر ببالي ما أذكره لكم .. وأحسبه أشبع ما أردت فهمه من ضرب المثال ..

- فأقول والله أعلم:

- مثال حال من تمكنت الغواية من نفسه حتى أصبت وصف لازم فيه .. مثل حال الكلب المتمكن فيه اللهث كوصف لازم له .. فكلاهما حال مستقر فيه ووصفا لازما لا يفارقه .. فلا الغواية تفارق الغاوي كما لا يفارق اللهث الكلب .. وإذا كان اللهث مرتبط بحال نفس الكلب ومصحوبا بتدلل لسانه .. فكذلك حال الغاوي لا تنقطع أنفاسه عن حب الغواية بالميل إلى الهوى ويدافع عنها حتى آخر نفس فيه .. وأخص أدواته في ذلك لسانه .. والله أعلم .

 

2- خد بالك .. أن قوله (ولو شئنا) ليس معناها أنه شاء له الكفر .. لا .. ولكن معناها أن الله لو شاء أن يجبره على الطاعة لكان له هذا ولكنه تركه لاختياره حب نفسه بالمخالفة لما أراد منه ربه .. فاختار أن يتبع هواه في الباطل .. فلما أختار أن لا يختار الله .. فتركه الله لاختياره .. (فأتبعه الشيطان) مؤيدا لهواه .. حتى سقط من عين العناية الإلهية وفارقته يد الإلطاف الربانية .. فكان ونفسه .. بعد أن كان وربه .. فسقط من معية الحق إلى تراب الأرض .. وما ربك بظلام للعبيد ..

- فافهم وكن بصير.

- واعلم أن كل من يرى نفسه معجبا بعبادته ومنتقصا للآخرين .. فاهجره هجرا جميلا وقل له: سلاما سلاما .. حتى يتوب من تلك النفخة الشيطانية التي تسكنه .. وابتعد عنه حتى لا يصيبك من حرها ما يلوثك ويشوه كرامة وصالك بربك.

 

3- الكرامة ما هي إلا مراية من مرايا الحياة التي تكشف حقائقنا النفسية .. وإذا كانت الكرامة هي حق في ظاهرها ولكن ليس كل حق نتيجته محمودة .. وكذلك ليس كل باطل نتيجته مذمومة .. فرب طاعة أورثت في القلب عُجْبَا واستكبارا كإبليس .. ورب معصية أورثت في القلب ذلا لله وانكسارا كآدم وحواء.

 

4- الكرامة هي استقامة الظاهر والباطن مع الله بالأدب .. أي بحال قلب يقول: (ماض فيَّ حكمك وعدل فيَّ قضاؤك - ولا حول ولا قوة إلا بالله) .

 

- وبهذا يكون خلاصة الكلام على قوله تعالى: (الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) الأعراف:175. وما كان حولها من قصص وتفسير .. ويتبقى مسألة واحدة وبها أختم إن شاء الله .

*****************

..:: س6: لماذا ترك الله الذي أتته آيات الله لاختيار نفسه حتى انسلخ منها ولم يشأ الله له أن يدركه بلطفه وعنايته ؟ ::..

 

#- قلت (خالد صاحب الرسالة):

- لماذا ترك الله الذي أتته آياته حتى انسلخ منها ؟

- لو لاحظتم شيء مهم في الآية .. أن الله لم يقل (آتيناه آياتنا - فاخلص لنا) وإنما قال (آتيناه آياتنا - فانسلخ منها) ..

- إذن: سقط من الآية باب الإخلاص في المعاملة لله وهو الأصل في اطمئنان القلب بمعية الله .. لتفهم أن هذا الشخص لم يطلب معية الله وحبه .. وإنما طلب الآيات لنفسه ليظهر بها أمام الناس على أنه صاحب الكشف العظيم أو صاحب الولاية الكبرى أو صاحب العلم الكبير .. ولكن الحقيقة هو انه بالرغم مما أعطاه الله من كرامات في العلم والمعرفة .. إلا أنها كانت وسيلة لتحقيق مكاسب من ورائها تتعلق بنفسه.

 

- وقد يكون الذي آتاه الله الآيات رجل دين أو علم دنيوي متمكن فيه .. وكان من الممكن أن يكون وسيلة يفهم منها أن عليه التعلق بربه .. إلا أنه استخدم هذا العلم وهذه المعرفة .. لتحقيق مكاسب دنيوية فقط بل وأحيانا أخرى لمحاربة الله ودينه في الأرض .. فلم يلتفت في الآيات التي بين يديه ليبصر الله .. وإنما فقط ليبصر ما تريده نفسه ..

- فكان انسلاخه منها هو عدم رغبته في إظهار وجود المنعم عليه بأفضاله .. لاعتقاده في نفسه ..فظن هذا المسكين أن الأسباب تنفعل من ذاتها له .. فسلخ من نفسه عقيدة الإيمان بالله المتفضل عليه والمتصرف في الوجود كما شاء ... ليمحو أصل فاعل الأسباب من نفسه وهو أن الفاعل هو الله .. وبدلا من أن يجعل الأسباب بالله فجعلها من نفسه تنفعل له كما يشاء ..

 

- وهذا من الأمور التي لم ينتبه الكثيرين في الآية .. وهي أن سقوط (بلعام) أو لعله (قارون) أو مهما كان اسمه .. هو إنما كان لسقوط الله من قلبه إذ أنه تعلق بالآيات ولم يتعلق بالله .. ولذلك نظر للأسباب ولم ينظر للمسبب .. فكانت الآيات سببا لسقوطه من المعية .. إذ أن الآيات ليست سببا للوصل بمعية الله لأنها مجرد عطاء مثل اي عطاء دنيوي .. وإنما الحب وإرادة الصدق والإخلاص مع الله أسباب الوصل بمعية الله لأن الإخلاص يجعلك تبصر وتتحقق بأن الله هو الفاعل والواهب لهذه النعمة ويظل في قلبك واعظ يذكرك بذلك ..

 

- ولذلك سقط قارون .. لأن اعتقد أن الأسباب تنفعل من ذاتها له .. وهي التي أكسبته هذا المال الذي وصل إليه .. في حين كانت الآيات أمامه وموسى من أقرباؤه .. وما وصل إلى ما وصل إليه إلا بعد أن سار على نهج موسى .. ولكن انسلخ من رؤية الله في العطاء ونسبها لنفسه .. فخسف الله به وبداره الأرض ..

 

- ولعل الذي آتاه الله آياته وانسلخ منها .. تنطبق على قارون تمام الإنطباق .. ويشار لذلك بقوله تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ) القصص:76 ..، وهذه الكنوز من آيات الله العظيمة التي منحها له بما لم يمنحها لأحد في العالم آنذاك حتى أن مفتاح الخزنة كان يحمله عشرة من الرجال الأقوياء جدا ليستطيعوا إدخاله في ثقب باب الخزنة ثم يديرون المفتاح لفتح باب الخزنة .. فإذا كان هذا وصف المفتاح فما بالنا بما في الخزنة نفسها من الذهب أو خلاف ذلك من الكنوز .. ثم تبدلت أحواله وأعتقد في نفسه والأسباب فقال: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) القصص:78.

 

- ثم كيف كانت الخاتمة ؟ (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) القصص:81.

 

#- وكثيرا كنت أقول للبعض ممن تغلبه الأهواء: أن لا يطلب طريق الكرامات ولا ينخدع بها سواء في الطريق الصوفي أو الروحاني:

- لو سمحت احترس من خدعة الشيطان .. فلا تطلب الآيات والكرامات والكشوفات والمرائي ..

 

- ولا تجعل الشيطان يخدعك بما تسمع وترى من أحوال الناس .. فتنخدع بما يزينون لك .. فلا هذا طريق صوفي صادق ولا حتى طريق روحاني شريف ..!!

 

- وتكون الإجابة عند من غلبته نفسه وهواه: من حقنا أن نطلب ..

- وتكون إجابتي له: فلا تندم بعد ذلك .. ولا تلوم سوى نفسك !!

- وأحيانا تكون إجابتي له لو وجدته معجبا بنفسه: (أوكيه - جود لاك -  ok- good luck) - وربنا يوفقك ..

 

@- إذن: فالمسألة ليست أن يأتيك الله من الآيات والبراهين الإيمانية .. ولكن المسألة هنا هي ما هو تعلق قلبك بربك ورجاءك فيه ؟!!

- إذ أن الآيات والعلامات والإشارات والبراهين .. هي ليقظة القلب في لحظة الغفلة أو للإنتباه .. وليس لتكون وسيلة ترفيهية للظهور بها بين الناس على أنك صاحب كرامة وعلم ..!!

 

#- وطبعا جميعكم تتذكرون قصة سيدنا يوسف .. لما رأى برهان ربه وهو يقظة القلب بلقاء الله .. فكان منتبها يقظا لما هو فيه من الفتنة .. لأن قلبه دائما كان معلقا بالله .. ولذلك لم يتركه الله ..

 

- فإذا كان لابد من حدوث الفتنة (بمعنى الإختبار) لجميع الخلق (حتى الأنبياء والرسل) .. ولكن الألطاف تأتي بقدر تعلق القلوب بمولاها .. وليست الألطاف بأن ينجيك الله من البلاء بل قد يدخلك فيه لحكمة هو يعلمها .. وإنما قمة اللطف أن يجعل قلبك ثابتا به وقت نزول البلاء .. وكأن قلبك ثابتا على مناجاة ربك قائلا (ماض فيَّ حكمك – عدل فيَّ قضاؤك – ولا حول ولا قوة إلا بك) ..

- فافهم هذا الكلام لأنه نفيس .. والله أعلم.

 

 #- وبهذا يكون ختام الكلام على ما يسر الله لي من الكتابة فيه .. فيما يتعلق بقصة الذي أتته آيات الله فانسلخ منها ..

- وأرجو من الله القبول ..

- اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وسلم.

**************************

يتبع إن شاء الله تعالى

*****************

والله أعلم

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وسلم

هذه الرسالة وكل مواضيع المدونة مصدرها - مدونة الروحانيات فى الاسلام -  ولا يحق لأحد نقل أي موضوع من مواضيع أو كتب أو رسائل المدونة .. إلا بإذن كتابي من صاحب المدونة - أ/ خالد أبوعوف .. ومن ينقل موضوع من المدونة أو جزء منه (من باب مشاركة الخير مع الآخرين) فعليه بالإشارة إلى مصدر الموضوع وكاتبه الحقيقي .. ولا يحق لأحد بالنسخ أو الطباعة إلا بإذن كتابي من الأستاذ / خالد أبوعوف .. صاحب الموضوعات والرسائل العلمية .